رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بعد السنوات العجاف.. تفيض أعوام الخير

من بين الدروس المستفادة من سورة "يوسف" التأكيد على غَلَبة أمر الله مهما كاد الناس، ومَكروا؛ فقد كاد إخوة يوسف له عندما بيّتوا له نية الأذى، فقضى الله بأمره وتدبيره نجاته، وتمكينه، فأصبح في نهاية المطاف عزيز مصر، قال تعالى: ﴿وَاللَّـهُ غالِبٌ عَلى أَمرِهِ وَلـكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ﴾.. وعلى الرغم من المحن الكثيرة التي تعرض لها يوسف، عليه السلام، إلا أن العاقبة التي آل إليها تُؤكد سُنة الله في الكون؛ وهي أن العاقبة للمُتقِين، والتأكيد على أن الله لا يُؤخر النصر إلا لحكمة بالغة، قال تعالى: ﴿حَتّى إِذَا استَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنّوا أَنَّهُم قَد كُذِبوا جاءَهُم نَصرُنا فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأسُنا عَنِ القَومِ المُجرِمينَ﴾، كما أن التربية الصالحة، والعفة، والاستقامة، والأمانة، وصلابة العقيدة، والصبر من أسباب تحقيق النصر، والعِزّة، والتمكين، وتخطي الصعاب، والفرج، والتمسك بالمبدأـ إن كان خيراًـ واليقين التام بأن الحق لا بُد أن يظهر حتى ولو بعد حين.

وفي سورة يوسف جاء ذكر السنوات السبع العجاف التي مرت على مصر، والتي كانت تفسير يوسف، عليه السلام، للرؤيا التي رآها الملك، ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾.. وكانت السبع العجاف اليابسات القاسيات، وفيها من الضيق والكرب والبلاء ما فيها، لكن بعدها كان عام الفرج والغيث والثمر والطمأنينة ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾.. ومن قبيل الاستئناس، فها قد مرت السنوات، ويملؤني اليقين بأنه وبنهايتها سيهل العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، حتى يكون عام الفرج والنصر والرفعة لأمتنا وبلدنا، وهو كذلك إن شاء الله، لأننا أخذنا بالأسباب التي تؤدي إلى النتائج التي كنا نرجوها.

ما دفعني إلى الرجوع لسورة يوسف، التي أحب قراءتها دائماً، ما رواه الدكتور محمد معيط، وزير المالية، من حاجتنا قبل سنوات، وفي وزارة المهندس إبراهيم محلب، إلى خمسة عشر مليون دولار للإفراج عن شحنة علاج لفيروس سي، متوقفة في الموانئ، حتى سداد هذا المبلغ للشركة المنتجة، في وقت نفد المخزون الموجود لمواصلة الجرعات المطلوبة للمواطنين، والتي تشترط التتالي في تناولها، حتى تأتي بنتائجها في علاج المرض، وإلا ضاع أثر ما تعاطاه المواطنون من جرعات سابقة.. كانت الدول لا تثق في مصر، وتطلب تحويل الأموال قبل تصدير شحنات القمح، بالذات، إلى القاهرة.. واليوم أصبحنا بعد خطة إصلاح اقتصادي قاسية وطموحة، لكنها كان الكي الذي يكون آخر الدواء، شريطة أن تجد هذه الخطة القائد الذي يتخذ قرارها بشجاعة محسوبة، وقدرة علمية على تجاوز آثارها السلبية، والوصول بها، مع المواطن، إلى بر الأمان.. دولة لها ثقل، يُحسب لها ألف حساب، بعد أن وفرت الأمن لمواطنيها وحلت مشاكلهم المستعصية، من توفير السلع وتطوير الطرق والأنفاق وتحسين الخدمات الصحية.. وهو ما جاء بعد سنوات من الجد والعمل الدءوب، تحولت خلالها مصر إلى ورشة عمل لا تهدأ ولا تنام.. في الوقت الحالي، أصبح كل شىء متوفراً، من الأدوية إلى كافة المنتجات، والعملة الأجنبية صارت متاحة، وارتفع احتياطنا النقدي إلى مستويات غير مسبوقة بالمرة، فتحققت الثقة في القاهرة التي باتت الدول تُورد لها القمح، ومن ثم تستقبل أثمانها، وبعد أن كان سفراء الدول أكثر زائري وزارة المالية، للمطالبة بمستحقات شركات بلادهم المتعثرة لدى مصر، التي عانت من عجز في الموازنة، وعلى شفا الانهيار، أصبحت دولة صحيحة اقتصادياً، تنجز المشروعات التنموية الكبرى في مختلف المجالات، وتحظى بالثقة من كل الأقطار.
سارع مصر الزمن، لأن ما فات من عمرها كان كثيراً وطويلاً، ولم نعد نملك رفاهية الوقت، بل إن كل دقيقة لها ما لها من الأهمية، وكفيلة بأن تحقق خطوة مهمة على طريق النهضة التي بدأتها القيادة السياسية، وسارت في دربها، غير عابئة بما ينالها من سهام الطعن والتشكيك، حتى أبانت الأيام، أن ما بدأه الرئيس عبدالفتاح السيسي كان الصواب، وأن ما يبتغي الوصول إليه هو الهدف الذي تستحقه مصر.. الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ في نوفمبر 2016 كان قراراً تاريخياً، له أثر مؤلم، ولكن الله أنعم على مصر بقائد امتلك جرأة اتخاذ القرار وشعب امتلك القدرة على تحمل تبعاته.. مصر حولت اقتصادها من حالة الإفلاس إلى الانضباط والإنجاز حتى صارت مضرباً للمثل.. استطاعت التغلب على نسب التضخم المرتفعة، وباتت زيادة المرتبات التي تقرها الدولة أعلى من نسب التضخم، ونجحت في إصلاح منظومة المعاشات والأجور، فأصبحت أقل قيمة للعلاوة الدورية 250 جنيهاً، تتزايد حسب الدرجات وتصل إلى 650 جنيها، في حين كانت لا تتخطى المائتي جنيه، قبل ذلك.. وزاد حجم الإنفاق 14% على العام الماضي، وقد تصل مبادرة تطوير الريف المصري إلى ثمانمائة مليار جنيه، حتى ينعم أهلنا هناك بالحياة الكريمة التي يستحقونها، إلى جانب تخصيص ثلاثمائة مليار جنيه من موازنة الدولة للاستثمارات التي تغير شكل مصر، بعد أن نجحت الدولة في تطوير العشوائيات واستبدلتها بالمدن الجديدة، وليس في النية تحميل المواطن أي أعباء مالية إضافية.

إن مصر التي ورد ذكرها فى القرآن الكريم في أكثر من ثلاثين آية، منها خمس آيات ذُكرت فيها باللفظ الصريح، وبقية الآيات ورد فيها ذكرها بالإيماء والتعريض، محفوظة بحفظ ربها، يأتيها رزقها رغداً، تتوالى عليها الصعاب، لكنها تقوم كالجواد الذي اعترضته كبوة.. ولذا، فليس مصادفة أن تصف كريستالينا جيورجييفا، مدير عام صندوق النقد الدولي، تجربة الإصلاح الاقتصادي في مصر بـ"قصة نجاح ونموذج يحتذى به"، بعد ما أظهره من قدرة على الصمود واستيعاب التداعيات السلبية الناجمة عن جائحة كورونا، فضلاً عما حققه من مستهدفات اقتصادية وهيكلية في إطار برنامج الإصلاح، وكونه من أسرع الاقتصادات نمواً على مستوى العالم مؤخراً، أخذاً في الاعتبار التحسن الجاري في المؤشرات الكلية للاقتصاد المصري، وكذا تنفيذ المشروعات الاستثمارية القومية العملاقة، فضلاً عن عودة تنامي قطاع السياحة تدريجياً. 

ولأن الرئيس السيسي كريم النفس واثق الخطو، لم ينس أن ينسب الفضل لأهله، وأكد "أن الشعب المصري كان له الدور الرئيسي في نجاح جهود الدولة في تنفيذ عملية الإصلاح الاقتصادي، بوعيه وإدراكه حتمية الإجراءات الإصلاحية التي تم اتخاذها في هذا الإطار، حتى ساهمت في إحراز تقدم أكدته المؤشرات الإيجابية للاقتصاد المصري بشهادة البيانات الرسمية لصندوق النقد الدولي، وتحسن التصنيف الائتماني لمصر من قبل المؤسسات الدولية المتخصصة، خاصةً خلال جائحة كورونا التي شهدت ركوداً اقتصادياً على المستوى العالمي بينما سجل الاقتصاد المصري نمواً إيجابياً لافتاً خلال تلك الفترة".

كانت مصر دولة مهلهلة قبل سبع سنوات.. فأصبحت دولة يشار لها، ويضرب بها المثل بعد أن حققت تقدماً اقتصادياً هائلاً، وصارت دولة قوية، تسعى الأخريات لكسب ودها، والنهل من تجربتها الرائدة في الإصلاح.
كل عام ومصر بألف خير.