رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حوار بين جيلين منى حبراس السليمية تحاور عبد الرحيم جيران

الناقد عبد الرحيم جيران: لا يُعقل العيش خارج التاريخ «عالة» على الآخرين (حوار)

عبد الرحيم جيران
عبد الرحيم جيران ومنى حبراس

عبد الرحيم جيران واحد من أهم وأبرز مفكري ونقاد المغرب العربي، ويأتي  ذلك عبر منجز ما قدمة للمكتبة العربية من العديد لمؤلقات في مجالي النقد والإبداع منها كتاب "علبة السرد"، و"في النظرية السردية"، وفي مجال الرواية قدم "عصا البلياردو"، و"كرة الثلج"، وفي مجال القصة قدم "ليل غرناطة".

لجيران العديد من المقالات في الرواية منشورة في كتب مشتركة ومجلات عربية، ويعتبر أحد أهم الكتاب والنقاد العرب في مشهدنا الثقافي الراهن، وأحد أبرز الأسماء النقدية المشغولة بطرح الأسئلة أكثر من الاطمئنان إلى الإجابات، كتب الشعر والرواية، وامتهن النقد الأكاديمي، والروائي والشعري

تواصل “الدستور” نشر سلسلة حلقات حوار بين جيلين، ونستضيف في هذه الحلقة الناقد والروائي المغربي عبد الرحيم جيران وتحاوره الكاتبة  العمانية منى حبراس السليمية، وإلى نص الحوار 

شغلت بالنص الأدبي والنظرية السردية والتأصيل لهما في غير كتاب، ما يكشف عن إشكاليات كبيرة شابت الجهود النقدية العربية، وحتى الغربية أحيانا، والتي تطرقت إليهما من قبل، إلى أي حد يمكن التأسيس لعمل نظري مصحح للمفاهيم والنظريات في ظل التهافت على الفهم السطحي والتلقي العجول؟

أوَّلًا أشير إلى أنَّ الضرورة تقتضي قبل التأسيس النظريّ، وإعادة النظر في المفاهيم المتداولة أن يتحصَّل لدينا الفهم الصحيح لأمرين: أوَّلهما يتصل بضبط الحقل الذي نشتغل فيه، وفهم الأسس المعرفيَّة التي قام عليها، وكذلك القصود السياقية التي كانت مؤثرة في تاريخه. 

وثانيهما لا بدَّ من بناء الذات المعرفية التي تأخذ على عاتقها مهام التأسيس. ولا ينبغي فهم الذات المعرفيَّة بوصفها ذاتا مرتبطة بهذا الفرد أو ذاك، وإنما بوصفها مقوِّمات معياريَّة قيمية تشرط كل من يسعى إلى مراس العلم والمعرفة.

 أمّا في ما يتَّصل بالتأسيس نفسه فينبغي لنا أن ننزَّهه عن أن يكون مجرَّد نزوع عاطفيّ أو نزوة طارئة مبعثها التظاهر الاجتماعيّ؛ إذ لا مناص من الإيمان به بوصفه ضرورة تاريخيَّة، إذ لا يعقل على الإطلاق العيش خارج التاريخ عالة على الآخرين، من دون مساهمة في تراكم المعرفة الإنسانيَّة، ولو بقدْر متواضع. لكن التأسيس لا يحدث من فراغ أو الركون إلى معرفة بديلة تستقى من الماضي، كما لا يحدث وفق نفي الآخر.

 ومهما كانت المسوِّغات، بل يحدث وفق تفاعل مع التراث الإنسانيّ المتنوِّع انطلاقًا من فضيلة الحوار المستند إلى ركنين: أ- الأسئلة المتعلِّقة بواقع الذات المعرفيَّة وموضوعها المعرفيّ؛ ب- الخبرة الخاصَّة المحصَّلة بفعل العمل داخل الحقل المعرفيّ. ولا تكون للتأسيس جدوى إلّا إذا كان هناك سياق علميّ منتج ومسعف، تتوفَّر كلُّ الشروط الت تسمح بتطويره بوساطة التداول العلميّ الصرف. لكن للأسف هذا السياق غائب في عالمنا العربيّ؛ الشيء الذي يجعل من الباحث المنتِج معزولًا، ومن أعماله جهودا لا طائلة منها. 

في ظلِّ عدم وجود إجماع على كثير من الأسس النظريَّة والمصطلحات العلميَّة في مجال النقد الأدبيّ. ألَا تظنُّ أنَّ مأزق النقد العربيّ ما زال طويلًا؟

لننطلق من مقدِّمة تُنيرلنا الطريق في هذا المسعى، وهي أنَّ النقد أو أيَّة معرفة مهما كانت طبيعتها، لا تنفصل عن الواقع السياسيّ، وتنظيم المتجمع، وبناء مؤسَّساته، وتقنين الاستحقاقات فيه بطريقة منصفة. ولهذا لن يكون النقد إلا معرفة تعكس ما يجري في هذا الواقع. وأظنُّ أنّ مسألة الإجماع ليست هي المطلوبة، بل التخالف في بناء التصورات، لأنَّ المعرفة لا تتقدَّم إلا بالقدر الذي تخضع فيه للنقاش والحوار البنَّائيْن. 

والحال أنَّ ما يحدث في عالمنا العربيّ هو التواكل على الغير الغربيّ في ما يُنتجه، وما نظنُّه اختلافُا في النظريات والاستعمال المصطلحيّ عندنا هو تفاوت في فهم ما نستورده من دون فهم دقيق له، وإدراك للخلفيات المعرفيَّة التي تتحكَّم فيه؛ فليس لدينا مصطلحات ونظريات أنتجناها نحن، وإذا ما لاح اجتهاد هنا أو هناك فإنَّه لا ينفلت من أن يحمل في طيَّاته آفة المقسَّم التي تطبع واقعنا السياسيّ؛ إذ يتَّخذ هذا الاجتهاد صبغة جزئيَّة، لا تعدو كونها اقتراح مصطلح ما أو فكرة ما من دون الاستناد إلى تصوُّر نظريّ مؤسَّس له مبادئه، ومقوِّماته النظريَّة والإجرائيَّة. والأدهى من هذا أنَّ حتَّى اقتراح هذه الجزئيَّة أو تلك لا يُبنى وفق مراعاة التسويغ المعرفيّ الدقيق، وتاريخ الحقل المعرفيّ والدراية بما أُنتج فيه ويُنتج.

 عُرفت بالجرأة في فحص ومساءلة المسلَّمات، وتصحيح البدهيات. ولك آراء مهمَّة تُعارض أسماء غربيَّة كبيرة. نذكر آراءك بإزاء طروحات تودوروف وبول ريكور وآخرين. ما الرسالة التي تُوجِّهها إلى الباحث الشابّ وهو يتلقى منجز الآخر؟

ينبغي لكلِّ شابٍّ أن يعثر على الرسالة المقذوفة في بحر المعرفة بنفسه؛ فهذا جزء لا يُستهان به من تكوُّن شخصيته المعرفيَّة. لكن لن يتيسَّر له هذا إلَّا بعد إتقان فنّ التلمذة. ولا أقصد بهذا الأخير اتِّباع هذا أو ذاك من الأساتذة أو التحوُّل إلى مريد له في الحياة والمعرفة، وإنّما إتقان محاورة فكره، وكيف يمكن تأسيس مسافة حياله بغية تأسيس التراكم الذي هو عنوان المعرفة الجيِّدة. ولا ينبغي تلقِّي الغير، الغربيّ أو غيره، إلَّا بمراعاة تقليد التلمذة هذا.

 وما كان لي أن أحاور تودوروف وغريماس وبول ريكور وغيرهم لولا أنَّني قضيت زمانَا طويلًا في التلمذة على أعمالهم قبل أن أختطَّ لنفسي طريقًا خاصًّا بي. وما أخشاه على شباب اليوم هو ألَّا تتاح لهم هذه التلمذة بفعل عدم قدرتهم على التمييز بين الزمان الميديا وزمان المعرفة؛ فزمان الأولى فوريُّ متسارع يمحو فيه اللاحق السابق من دون أن يترك له فرصة أن يستقرَّ ويأخذ حقَّه اللازم في تشكيل الوعي، بينما زمان الثانية بطيء لا يقاس بالدقائق والساعات، بل بالأعوام والعقود. ولهذا أخشى أن يُتلقَّى الغير من متاح زمان الميديا، لا من خلال زمان المعرفة، فتنتج عن هذا معرفة مشوَّهة. ومعنى هذا أنَّ على الشابّ- وهو يسعى إلى العثور على رسالته الخاصَّة- أن يُؤمن بطول النفس، وبناء ذاته وفق زمان ممتدٍّ، وألَّا يتسرَّع في جني النتائج.

 في كتابك الأخير"الذاكرة في الحكي الروائيّ" قدَّمت طرحًا غير مسبوق في تأصيل مفهوم الذاكرة، وما اتَّصل بها من تذكُّر واستذكار، والفرق بين أشكالها، فضلًا عن الفرق بينها والتاريخمن جهة، والفرق بين الذاكرة في الرواية والذاكرة في السيرة الذاتيَّة من جهة أخرى. هل يُمْكِن القول إنَّ الذاكرة مناط عملية الكتابة برمَّتها وأنَّها الباب الموصل إليها بإطلاق؟ 

سؤال يضعنا مباشرة أمام ذاكرة كلمة "الذاكرة"ذاتها. لقد كان أفلاطون من ألَّذ أعداء الكتابة لأنَّها تُضعف الذاكرة، وقد كان يستحضر- وهو يتَّخذ موقفههذا - مسألة التعلُّم.لكنَّ الكتابة ليست إلَّا امتدادًا اصطناعيًّا لعجز الذاكرة، فهي تُثبت المعلومة عبر تسجيلها اتِّقاءَ السهو والنسيان، واتِّقاءَ الخوف من التنازع حول حقيقة الكلمة الأولى التي قيلت؛ ذلك التنازع الذي هو خاصِّية ملازمة للتناقل الشفهيِّ. 

وأكيد أنَّ مختلف مناحي الكتابة لا تنفصل عن عمل الذاكرة وآلياتها؛ ففي دراسة لي حديثة أُلْقِيَتْ في إحدى الندوات سعيت إلى أن أُبرهن فيها على التواشج بين الذاكرة والإحالة والتخييل؛ فهناك الذاكرة النصِّيَّة التي تتحكَّم في أنتاج الجمل والفقرات والإحالات المحموليَّة، وهناك ذاكرة التخييل التي تتحكَّم في إنتاج الحكاية، والرموز التي تخترقها؛ ذلك أنَّ أيَّ نص تخييليّ لا فكاك له من أن يُخترق من قبل الذاكرة الثقافيَّة والتاريخيَّة التي تتجلَّى في هيئة وحدات محموليَّة عليا تُوجِّه صيرورة التخييل، بل تكُون أحيانُا مسؤولة عن إنتاج الحبكات.  وأظنُّ أنَّني قد أعدت النظر- في كتابي الجديد "الذاكرة المقنعة في ألف ليلة وليلة" والذي انتهيت منه هذه الأيّام- النظرَ في الأطروحة التي تَعُدُّ "الليالي" نتاجًا هنديًّا أو فارسيًّا وفق الحفر في ذاكرة التخييل التي بنيت وفقها. 

وبهذا خالفت من سعى إلى إثبات عربيتها انطلاقا مما هو موضوعاتي أو أسماء تاريخيّة أو أسماء الأمكنة. ولا تقتصر أهمِّية الذاكرة على النصوص التخييليَّة فحسب، بل تتعداها إلى الكتابة النظريَّة أيضًا، ولربًّما كان نافعًا لمن يهتمُّ بنقد النقد أن يتنبَّه إلى أهمِّية الميتا- ذاكرة في بناء المعرفة النقديَّة.

 قلت في مقدمة كتابك هذا إن القرن العشرين هو قرن الذاكرة. ولكن أليست الذاكرة هي كل القرون التي سبقت، والتي ستأتي لقابليتها لاحتواء التاريخ والفلسفة معا اللذين هما من سمات القرن الثامن عشر والتاسع عشر كما ذكرت؟ 

لم يكن عدي الذاكرة ميزة القرن العشرين إحساس كاتب مرهف أقلقه ما حدث من ويلات ومآس في هذا القرن شكلت ذاكرة شعوب برمتها، ربما كان هذا واردا، لكنّه لا يتخطّى الجانب الأنطولوجي للذاكرة الإنسانية، والذي كان له كبير الأثر في إنتاج عديد من النصوص الروائية والتاريخية والسير الذاتيَّة، لكنَّ ما يجعل هذا القرن- في نظري- قرن الذاكرة بامتياز هو التطوُّر المذهل الذي يتَّصل من جهة بالدراسات العلميَّة التي فكَّت كثيرًا من ألغازها التكوينيَّة على مستوى علم الأعصاب، وامتدادها   الاصطناعيّ الماثل في وسائل تثبيت المعلومة؛ حيث لم يَعُد توثيق الأحداث الكبرى والصغرى يعتمد على الكتابة فحسب، بل صار يعتمد على الصورة المخزَّنة الفوريَّة التي تنقذ الحدث من آفة تأويل الكلمات بفعلفقدانها سياقاتها المباشرة. 

وأكيد أنَّ كلَّ القرون السابقة كانت متَّصلة بالذاكرة بهذا القدْر أو ذلك، وكذلك ستكُون القرون اللاحقة، لكنَّ القرن العشرين شكَّل تطوُّرًا لافتًا للنظر في الإعلاء من شأنها، تطوُّرًا مثَّل قطيعة مع ما سبقه وتمهيدًا لما سيأتي من بعده من تطوُّرات. 

 

علبة السرد والنظرية السردية من التقليد الى التأسيس
علبة السرد والنظرية السردية من التقليد الى التأسيس
images
images
images (1)
images (1)
download
download