رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عماد العادلي عن أحمد خالد توفيق: «عاش ومات موظفًا.. وكانوا يصافحونه كقائد حرب

عماد العادلي
عماد العادلي

في محاولة لتشريح ظاهرة أحمد خالد توفيق والسر الذي وصل به إلى أن يلقب بالعرّاب وسر المحبة التي حاوطته أواخر أيامه وسر جنازته التي امتلأت عن آخرها وكيف حول محبوه السوشيال ميديا إلى سرادق عزاء كبير.

لكل هذا التقت الدستور بعدد من النقاد والصحفيين المقربين منه وسألتهم عن الظاهرة، وفي هذا التقرير يتحدث عماد العادلي وهو الذي كان مستشارا لمكتبات "ألف"، وناقش الدكتور في العديد من الندوات.

يقول عماد العادلي:" التقيت الرجُل لأول مرةٍ في ندوة ولقاء مفتوح بمصر الجديدة، وللأمانة لم أكن أعرفه إبداعيًّا إلا من خلال روايته «يوتوبيا» ذائعة الصيت، والتي كانت محل المُناقشة والتوقيع في ذلك اليوم، وهي رواية من أهم ما كتب الرجُل، بل يعتبرها البعض دُرة التاج بالنسبةٍ له، فضلًا عن أنها العمل الأول الذي يخرجه لقارئ الروايات العادي بعد أن كان خطابه الإبداعي موجهًا للناشئة واليافعين.

كُنت قد سمعت عنه كثيرًا، وعن المحبة الجارفة التي يحظى بها، لا سيما في أوساط شباب القراء وشباب الكُتَّاب على السواء، وحتى نُقاده ورافضوه كانوا غالبًا ما يُثنون على أخلاقه، وعلى فضله في إدخال العديد من الشباب إلى حديقة القراءة العَصِية والمُتَمَنِّعة، فكان الجميع يتحدث عنه بنشوة تبجيلية مُدهشة، مما ألهَب الشَغَف لديَّ للقائه.

تابع "كانت عادتي أن أحضر إلى المكان قبل الضيف بساعتين على الأقل؛ لأنعم ببعض الهدوء والاستعداد في رُكن قَصِيٍّ أُراجع التزاماتي المهنية من الأسئلة التي سأطرحها على الضيف، وأيضًا محَاور النقاش الرئيسية، والتي مُهمتها خلق حالة من تجاذب الحديث بين الضيف وجمهوره، وبالفعل ركنت سيارتي بعيدًا وتمشيت إلى المكتبة كعادتي، فإذا بي أجدُ جُمُوعًا هائلة وممتدة أمام المكتبة، اعتقدت في البداية أنه تجمُّع تقليدي لشباب المنطقة، فهُم مُعتادون على الوقوف ليلًا بجوار سياراتهم التي يتسابقون بها بعدما تخفُّ حركة المرور، ولكن حينما اقتربت أكثر بانت لي ملامحهم، وبانت لي أيضًا الكُتب التي يحملونها، ونظارات بعضهم السميكة، والتي تُوضح بجلاء هُويتهم القارئة، اخترقت الحشود ودخلت المكتبة لأسأل زُملائي عن الاستعدادات للحدث، فوجدت الجميع مُرتبكًا يدُور حول نفسه.

وواصل:" هدَّأت من روعهم، وتابعت عدة أمور  معهم، ثُم اتصلت بالرجُل فإذا به على مقربةٍ مِنا، فاستأذنته في الإسراع؛ لأن الموقف حرج، والأعداد تتزايد بشكل خارج عن السيطرة، ولم تمر عدة دقائق حتى سمعتُ جَلَبة بالخارج، فعرفت أنه قد أتى، استأذنتُ الشباب المُحيط به، وأخذته سريعًا إلى غُرفة جانبية، جلس الرجُل مُتعرقًا ومُمسكًا بمنديل قماشي من النوع المحلاوي يمسح به عرقه المُتجَاوز، سألته ماذا تشرب؟ فقال: «شاي سُكر خفيف»، ثم هَبَّ واقفًا وكأنه تذكر شيئًا مُفاجئًا، وأبدى قلقه من ترك الناس هكذا وهُم على علم بوجوده، وطلب أن يشرب الشاي أثناء اللقاء، وخرجنا نشُقُّ صُفوف الناس شقًّا، وكان الناس يُسلِّمون عليه كقائد حرب خرج منتصرًا لتوِّه من معركة كُبرى، بينما الرجُل يمشي خافض الوجه خفيض الصوت، ويُسلِّم على الجميع بحرارة وحميمية، بل يقف يتحدث مع كبار السن، ويُداعب الأطفال بيد ويمسح عرقه الغزيز باليد الأخرى، وبعد الوصول إلى المنصة بعناء ومشقة جلس الرجُل، وجلست بجواره، وبدأت الندوة التي افتتحتها بقولي: «إنه يوُمٌ استثنائي»، وبالفعل كان يومًا استثنائيًّا في كُل شيء، في عدد الحضور.. في الحفاوة البالغة.. والمحبة الصادقة والمُتبادلة والتي تنضح على الوجوه.. وتواضع نجم الحفل، «وهذا أمرُ لو تعلمون نادرٌ وعظيم»، فضلًا عن أنني لم أنعم بطرح سؤال واحد أو أسعد برمي محور للنقاش أمام السيل الفياض من الأسئلة والمحاور النقاشية، ومرَّ اللقاء بشكل سلس وساحر، وأنا مُنبهر بأداء الرجُل شديد العادية، وأبحث عن مكمن السحر الذي يُصيب مُحبيه، وقد صرت واحدًا منهم رغم هذا اللقاء القصير، واتخذت قرارًا فوريًّا بضمه إلى قائمة الأصدقاء المُقربين، هكذا حتى قبل أن أستطلع رأيه أو أعرف إن كُنت خفيفًا على قلبه أم لا، وإن كان هو يرتضي تلك الصداقة أم لا، ولكن ألحَّت عليَّ الرغبة في أن أُقيم جُسور تواصل بيني وبينه، فهُناك شبه ما بيني وبينه حاولت استكشافه، ولكن في الحقيقة فشلت في استكشافه، وتركت التفكير في الأمر لوقت آخر.

وأكد: "كان التحدي الأكبر في ذلك اليوم هو مسألة توقيع الكُتب، فأنا على علم بظروف الرجُل الصحية، وعلى علم أيضًا بأنه لن يتحمَّل هجمة الناس المُتوقعة عليه، فاستأذنتهُم بلُطف في تنظيم صفوفهم، وتقديم البنات على البنين، فبعضهن وحسب ما عرفت قد أتى من مُحافظات بعيدة، كدمياط، والمنيا، والفيوم، والسويس، وغيرها، فالتزم الجميع، ووقف الطابور مُمتدًا حتى وصل إلى كمين الشُّرطة بالخارج، ومِن حُسن الطالع أن الضابط الشاب المسئول عن الكمين كان على عِلم بقدوم الرجل، بل وكان مِن مُنتظريه أيضًا، فحينما ذهبتُ لألتمس منه العُذر على ما سبَّبناه من زحام وارتباك فوق الرصيف وجدته يُطمئنني بأن لا شيء، وطلب مني أن أُرسل للرجل بوكيه ورد قد أتى به خصيصًا له، لكنه استحى أن يفعل ذلك وهو يرتدي زِيه الميري وفي وقت خدمته، وطلب مني أن يُوقع روايته باسمه، فاستأذنته أن تكون الرواية هدية من المكتبة، دخلت المكتبة مرة ثانية لأجد الرجل غارقًا في عرقه بعدما اختلَّ نظام الطابور، واقتحم البعض على الرجُل مقعده، وهو يحمل كُتبًا كثيرة "كتب الجيب" ليُوقِّعها، والعجيب أن الراحل الذي كان في حالة يُرثى لها لم يضِق بمثل هؤلاء أو يُعنِّفهم، بل كان يستجيب بشكل غريب، بل يقطع التوقيع لطرح سؤال على الشخص الواقف أمامه، ويتبادل مع الحديث، ولاحظت أن خط الرجل في توقيعه وإهدائه بدأ يرتبك ويتوتر، وحينها استأذنت الجميع بالجلوس، وأنا سأمر عليهم واحدًا واحدًا لآخذ منه الكُتب التي يُريد توقيعها، ثُم أدعوه لأخذ صورة مع الرجُل، وأُشرف على ترك المُوَقع للقاعة بنفسي حتى يخف ضغط الناس، ويستطيع الرجُل أن يتنفس بحُرية.