رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر.. جدل التحدى والنصر

ما أحوجنا هذه الأيام، ونحن نمر بالذكرى الرابعة والخمسين لحرب يونيو ١٩٦٧، أن نستعيد دروس تلك المرحلة بالغة الخطورة التى مرت بها بلادنا، حين تعرضت لهزيمة مفاجئة نكراء، تم فيها تحطيم جيشها دون أن يتاح له دخول المعركة والذود عن وطنه، واجتاحت أحذية الصهاينة، البرابرة الجدد، الأرض العربية والمصرية، فاحتلت كامل تراب فلسطين والضفة الغربية لنهر الأردن، ومرتفعات الجولان، وكل مساحة سيناء المصرية، حتى استقرت بقواتها الغاشمة على الضفة الشرقية لقناة السويس، على بُعد نحو مائة كيلومتر من عاصمة البلاد القاهرة.

ولكون أغلب مواطنى مصر الآن من الشباب وحديثى السن، الذين لم يعيشوا مرارة تلك الأيام، ولا عانوا آلامها أو عاصروا بطولاتها، ولغياب دور وسائل الإعلام، على تنوعها وكثرتها، فى تعريف هذه الأجيال الصاعدة بتلك الأيام القاسية المجيدة- فمن المفيد، ولو فى عجالة، الإشارة إلى مغزاها ودروسها، لأن لها شبهًا كبيرًا بالتحدى الوجودى الصعب الذى نواجهه الآن، وبالتحديات المصيرية الفارقة، التى واجهتها مصر على امتداد تاريخها، فصمدت فى مواجهتها، وقاومتها، وانتصرت عليها.

ففى غفلة من الزمن، تمكنت القوات الإسرائيلية من توجيه ضربة قاصمة للجيش المصرى دون أن تتاح له فرصة حقيقية للنزال، فحطمت الطائرات على ممراتها، ودمرت الأسلحة الرابضة فى مواقعها دون أن تواجه خصمها، وشيدت القوات الصهيونية الغاصبة على ضفة القنال خطًا دفاعيًا منيعًا، هو خط «بارليف»، محجوبًا بساتر ترابى عالٍ، وزعموا أن تحطيم هذا الخط يحتاج إلى ضربه بقنبلة ذرية، وبدا للعالم أجمع أن مصر قد انكسرت إلى الأبد، وأن الكيان الصهيونى، المدعوم أمريكيًا وغربيًا، قد انتصر عليها ومرغ أنفها فى التراب ولن تقوم لها قائمة بعد ذلك.

لكن الشعب المصرى، الرقم السحرى الذى لم يضعه العدو فى الاعتبار، فعل المستحيل، حين هب وهو تحت التأثير المباشر للفاجعة، يرفض الهزيمة ويطالب بالثأر، وحين التف، على قلب رجل واحد، خلف وطنه، وهو يخوض معركة الوجود لطرد القدم النجسة من الأرض الطاهرة.

واستمدت القيادة فى تلك الآونة العزيمة من صمود الشعب وإصراره على القتال وتجاوز اللحظة المأساوية بكل أحمالها النفسية والاقتصادية والحربية وسعت جاهدة لإعادة تسليح الجيش المصرى بالأسلحة والعتاد من الاتحاد السوفيتى السابق، وتدريبه وإعداده لمعركة الثأر واستعادة الكرامة، بينما كانت دولة الاحتلال الصهيونى تعمل بكل السبل على تأكيد الشعور باليأس فى نفوس المصريين، وزرع اليقين بالعجز فى وعيهم، خصوصًا بعد عربدة الطيران الإسرائيلى فى السموات المصرية، وإيقاع خسائر فادحة بمدن القنال، وبشركات البترول والمصانع وحتى مدارس أطفالنا.

وحدثت المعجزة، بعد ست سنوات من التحدى والصمود، بعبور يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣، حيث تفاجأ العالم كله، وتفاجأ الكيان الصهيونى، باقتحام بطولى للقناة، وبانهيار «سد برليف» تحت وطأة حلول بسيطة وعبقرية، تفتقت عنها قريحة المصريين، وإبداعهم الحضارى المخزون.

الدرس الرئيسى من هذه التجربة المعاشة أن الشعوب الحية ذات الركائز التاريخية الأصيلة قد تكبو وتتعثر، وقد تتأخر وتتعطل، لكن مخزونها الحضارى العظيم، يمدها فى اللحظات الحرجة بطاقة جبارة على فعل ما لا يمكن تصوره من أفعال، وبما يمكنها من انتزاع النصر من عمق الهزيمة وويلات الأيام السود.

نحتاج فى هذه اللحظات الحرجة من حياة وطننا أن نثق فى مصر أم الحضارات وفجر ضميرها الإنسانى، وشعبها المبدع العظيم، فالشعب كما يقول شاعرنا الكبير «أحمد فؤاد نجم»:

«هو الباقى حى، هو اللى راح، هو اللى جى، طوفان شديد، لكن رشيد، يقدر يعيد، صنع الحياة».