رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«خبيئة محفوظ».. «الدستور» تكشف النقاب عن السيدة التى حاولت سرقة مقتنيات أديب نوبل وبيعها بمزاد فى بريطانيا

خبيئة محفوظ
خبيئة محفوظ

لا يكون الأدب أدبًا من خلال شخص واحد بل يكون حقيقيًا حينما يتبناه الآخرون ويصبح جزءًا من الحياة الاجتماعية

قبل نحو ١٠ سنوات، وفى ١٤ ديسمبر ٢٠١١، بعد مرور ٣ أيام من الاحتفال بمئوية الأديب العالمى نجيب محفوظ المولود فى ١١ ديسمبر ١٩١١ والمتوفى فى ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦، صُعق الوسط الثقافى والمتابعون بمانشيت صادم فى الصحف المصرية، هو «بيع مقتنيات أديب نوبل فى صالة سوذبى فى لندن».

الصحف قالت آنذاك إن المقتنيات عبارة عن صور فوتوغرافية عائلية، وكتابات قديمة بخط يد أديب نوبل، ومنها مخطوطة لآخر عمل كتبه، و١٠٠ صفحة من رواية لم يسبق نشرها تحمل اسم «قصة السودان»، ومقتطفات من روايته «الأحلام».

وكشفت الصحف عن أن صالة العرض «سوذبى» عرضت بيع تلك المقتنيات بسعر يتراوح بين ٥٠ و٧٠ ألف جنيه إسترلينى، ونقلت عن الصالة ادعاءها أن المخطوطات تمثل مسيرة الراحل منذ ثلاثينيات القرن الماضى وحتى رحيله عام ٢٠٠٦.

وفى اليوم الثانى من الإعلان عن المقتنيات بالمزاد البريطانى، أى فى ١٥ ديسمبر ٢٠١١، صدر قرار بإيقاف بيع المقتنيات فى المزاد، بعدما تدخلت وزارة الخارجية المصرية وخاطبت السلطات فى لندن، استجابة لمطالبات عائلة الأديب العالمى وعدد من الكتاب البارزين، ورغم إيقاف المزاد، لم تعد تلك المقتنيات إلى مصر، حتى يومنا هذا، وتوقف مع ذلك الحديث عن كيفية خروجها من مصر من الأساس ومَن المسئول عن تهريبها وعرضها فى المزاد.

وتوصلت «الدستور» إلى وقائع جديدة فى القضية تكشف لأول مرة عن كيفية خروج المقتنيات من منزل نجيب محفوظ بالعباسية ثم إخفائها، ثم محاولة وسيط غامض الحصول عليها أكثر من مرة عبر عقد صفقات مع سارقها، ثم تهريبها خارج مصر وعرضها فى المزاد ثم الاستيلاء عليها حتى يومنا هذا، وأسرار أخرى نعرضها خلال السطور التالية.

 

 

نجيب محفوظ وبريتا ليفا 

أحد أقربائه استولى على مخطوطاته من منزله بالعباسية

طرف الخيط الجديد الذى يجب أن نمسك به فى بداية الكشف عن هذه القضية، يتجلى فى واقعة حدثت عام ٢٠١٢، عندما استدعت النيابة العامة المصرية نجلتى أديب نوبل، «فاتن»، و«هدى» للتحقيق معهما حول واقعة سرقة ٨ مخطوطات نادرة لنجيب محفوظ وغير مسجلة بالهيئة العامة لدار الكتب والوثائق، وتبين أنها كانت ضمن المقتنيات التى أُعلن عن بيعها فى المزاد العلنى ببريطانيا، والذى كان سيعقد دون علم الأسرة والسلطات المصرية، وجرى استدعاء ابنتى الراحل بعد أيام من إيقاف ذلك المزاد المشبوه.

كتابها عن نجيب محفوظ

وظلت التحقيقات فى تلك القضية مستمرة منذ شهر يناير ٢٠١٢، حتى ٢٢ أبريل ٢٠١٥، وبعدها صدر حكم من الدائرة الثانية الاستئنافية بمحكمة القاهرة الاقتصادية برئاسة المستشار مصطفى أبوالدهب، وعضوية المستشارين محمود صبرى، وأحمد عبدالمحسن، وأمانة سر إبراهيم أبوالسعود، بحبس زوجة أحد أقارب نجيب محفوظ ٨ أشهر بتهمة سرقة وبيع المخطوطات النادرة، كما وجهت اتهامًا لمتهم ثانٍ فى القضية، وهو شخص أمريكى الجنسية، وصاحب إحدى المكتبات بالولايات المتحدة الأمريكية.

وظلت تفاصيل تلك القضية وسط تردد أقاويل عن أن أحد أقارب نجيب محفوظ حصل على تلك المخطوطات من شقة الراحل بالعباسية، وعندما طالبه أديب نوبل بردها رفض، ثم توفى ذلك الرجل بعد فترة وظلت المخطوطات مع زوجته سالفة الذكر. 

 

افتتاح معرض بريتا ليفا في الاهرام

مُصوّرة غامضة تقربت من محفوظ.. والأديب افتتح بنفسه معرضًا لأعمالها

هنا نعود نحو ٣٠ عامًا إلى الوراء لنتعرف على الطرف الأكثر غموضًا فى القضية وهى سيدة غامضة تدعى «بريتا ليفا»، أمريكية الجنسية، بدأت بالظهور فى حياة أديب نوبل منذ فترة الثمانينيات، عبر تقديم نفسها له على أنها مصورة فوتوغرافية، ساعية إلى توطيد علاقتها وصداقتها به بشكل ملح.

وظهرت تلك المرأة لأول مرة إلى جوار نجيب محفوظ، وإبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام، وهما يفتتحان معرضًا لأعمالها المصورة فى «الأهرام» فى فترة الثمانينيات، ولم يلتفت أحد لطبيعة نواياها آنذلك، نظرًا لتشعب علاقات أديب نوبل ولقاءاته المتعددة بالصحفيين والفنانين والأدباء الأجانب. 

فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل 

وبعد إعلان فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل فى الآداب عام ١٩٨٨ عن مجمل أعماله الأدبية، أرسلت «بـ. بريتا ليفا» خطابًا تُهنئ فيه نجيب محفوظ بالجائزة، وهو الخطاب الذى ذيلته بعبارة «ألتقيك قريبًا فى القاهرة»، وبالفعل وبعد ذلك بعام جاءت تلك السيدة الغامضة إلى القاهرة فى زيارة سريعة، وكان أول شىء تقصده بعد نزولها مطار القاهرة، هو زيارة نجيب محفوظ فى جريدة الأهرام. ومن هنا نشأت علاقة صداقة بين تلك السيدة ونجيب محفوظ، ظهرت دلالاتها فى حضور أديب نوبل بنفسه افتتاح معرض لأعمالها المصورة فى الأهرام رفقة إبراهيم نافع، وهو المعرض الذى لم يكتف «محفوظ» و«نافع» بحضوره فقط بل قصَّا شريط الافتتاح كذلك وكأنه حدث خاص بهما بشكل شخصى.

وبعد أيام من انتهاء المعرض، التقت «بـ. بريتا ليفا» نجيب محفوظ، وطلبت منه بشكل مباشر الحصول على أى مقتنيات له، خاصة مخطوطات كتاباته، إلا أنه اعتذر بحجة أنه أكثر الكُتَّاب فى عدم احتفاظه بمخطوطات أعماله، وبعد ذلك اللقاء غادرت السيدة الغامضة القاهرة عائدة إلى نيويورك. 

نجيب محفوط وبريتا ليفا

«السمسارة» أبرمت صفقة للحصول على المسروقات بطرق غير مشروعة

انقطعت أخبار «المرأة الغامضة» عن القاهرة لمدة ١٩ عامًا منذ عام ١٩٨٩، حتى ظهرت مرة ثانية عام ٢٠٠٨، أى بعد عامين من وفاة نجيب محفوظ فى ٢٠٠٦، وجاءت إلى مصر للقاء أسرة الأديب الراحل، زاعمة تكليفها من جامعة هارفارد بشراء المخطوطات الخاصة بالأديب، إلا أن طلبها قوبل بالرفض.

وانتظرت «بريتا ليفا» فترة قصيرة، حتى كررت زيارتها مرة أخرى لأسرة أديب نوبل، ولكن هذه المرة جاءت ومعها رسالة شفهية وعرض خاص للأسرة من صاحب إحدى المكتبات بالولايات المتحدة الأمريكية. الرسالة التى حملتها السيدة نصت على «أن نجيب محفوظ لو كان أديبًا أمريكيًا لكنا أعددنا له تمثالًا وعبدناه»، أما عن العرض فكان طلبًا باقتناء مخطوطات أديب نوبل، ووجهته «بريتا ليفا» مباشرة إلى زوجة الراحل عطية الله، ونجلتيه فاتن، وهدى أو أم كلثوم، لكن الأسرة رفضت أيضًا، وشكرت صاحب المكتبة على رسالته.

ولم تكف «بـ. بريتا ليفا» عن ملاحقة أسرة نجيب محفوظ للمطالبة بالحصول على المقتنيات أكثر من مرة، فى حين بدأ وجهها وغرضها الحقيقى يتكشف بعدما علمت من مصادر خاصة بها بأمر سرقة أحد أقرباء نجيب محفوظ المخطوطات «ابن عمه»، وأن هذا القريب قد توفى، وأن المخطوطات ما زالت بحوزة زوجته.

 

اسرة نجيب محفوظ

وبدأت السيدة الغامضة مساومة أسرة نجيب محوظ بشكل واضح وصريح، وقالت لهم نصًا: «سأكشف لكم عن سارق المقتنيات ومكانها مقابل شرائها منكم بتفويض رسمى وبثمن بخس»، لكن سرعان ما جاء الرد من فاتن، ابنة نجيب محفوظ، التى رحلت بعد ذلك عن عالمنا، حيث وافقت على العرض مقابل أن تمنحهم السيدة الأمريكية مليون جنيه، على أن يكتبوا لها تفويضًا بالتنازل عن المقتنيات. ما حدث أن السيدة الأمريكية لم يعجبها ما سمعته من أسرة نجيب محفوظ، وهنا لجأت إلى طريق أكثر سهولة للحصول على المقتنيات، بأن ذهبت لـ«س. م» زوجة السارق قريب أديب نوبل، وأتمت الصفقة معها وحصلت على المخطوطات.

وعادت «بـ. بريتا ليفا» إلى نيويورك وبحوزتها مقتنيات نجيب محفوظ المسروقة من شقته بالعباسية ومنها مخطوطات مذكرات طفولته، ليس هذا وحسب، بل مخطوطات مزورة بيعت إليها على أنها مخطوطات للراحل، وهى ليست كذلك.

 

نجيب محفوظ

الأمريكية الغامضة متوغلة فى الوسط الثقافى المصرى وحاولت تكرار الواقعة مع ورثة الراحل جمال الغيطانى

هنا حاول محرر «الدستور» الوصول إلى السيدة الغامضة «بريتا ليفا»، وأجرى بحثًا عنها عبر موقع «فيسبوك» وتوصل إلى حسابها الشخصى، وأرسل إليها رسالة على اعتبار أنه يعمل فى مجال المزادات فى مصر، وطلب منها مساعدة فى الحصول على أى مخطوطات أو مقتنيات للكاتب نجيب محفوظ وبأعلى سعر تحدده، وسرعان ما جاء ردها قائلة: «بما أننى لا أعرفك، ربما يمكنك أن تخبرنى ما الذى أعطاك فكرة الاتصال بى». وأخبرها المحرر بأنه توصل إليها من معرض الصور الخاص بها، والذى افتتحه معها نجيب محفوظ وإبراهيم نافع فى جريدة الأهرام، إضافة إلى قراءة كتابها «قاهرة نجيب محفوظ»، لكنها قرأت الرسالة ولم ترد. وتبين من البحث على الحساب الشخصى لـ«بـ. بريتا ليفا» عبر موقع «فيسبوك» وجود علاقة صداقة تجمعها ببعض الكتاب المشاهير فى الوسط الثقافى المصرى، أبرزهم الكاتب محمد سلماوى،  وشاركت منشورًا لها مع «سلماوى» عن مقالة باللغة الإنجليزية، كتبها نجيب محفوظ لإحدى المجلات الأجنبية بعنوان «دور المبدع فى المجتمع».

وتبين أنها تربطها أيضًا علاقة طيبة بأحد الدبلوماسيين المصريين السابقين يدعى «م. م»، تم القبض عليه فى ٢٣ من شهر أغسطس ٢٠١٨ بعدما أطلق دعوات بإجراء استفتاء شعبى حول استمرار الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الحكم من عدمه، كما حرض على الاحتشاد فى ميدان التحرير يوم ٣١ أغسطس ٢٠١٨، وهى العلاقة التى كُشفت عندما شاركت السيدة صورة له وهو يناقش كتابًا لها عن نجيب محفوظ فى ندوة أقامتها بالولايات المتحدة الأمريكية.

 

مقال نجيب محفوظ

رحلة تحرينا عن تلك السيدة، كشفت أيضًا عن أنها أجرت محاولة فاشلة للاستيلاء على مخطوطات الأديب الراحل جمال الغيطانى عندما ذهبت إلى الكاتبة الصحفية ماجدة الجندى، زوجة الأديب الراحل، عقب وفاته وعرضت عليها الحصول على مخطوطاته، إلا أن ماجدة الجندى نجت من فخها ورفضت ذلك.

وكانت لـ«بـ. بريتا ليفا» علاقة قديمة بالأديب الراحل جال الغيطانى، كشفت عنها السيدة الغامضة فى كتاب صدر عن الجامعة الأمريكية بعنوان «قاهرة نجيب محفوظ»، فيما تبين أيضًا توغلها داخل الوسط الثقافى المصرى، ووجود علاقات لها بأصدقاء نجيب محفوظ، ومحاولاتها لتهريب مقتنيات مشاهير الأدب فى مصر.