رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قولًا واحدًا: لا نسخ فى القرآن

من الأكاذيب التى أدخلها القدماء على القرآن أن الله أنزل آيات قرآنية تحتوى على أحكام دينية ثم قام بإلغائها!! وهذه فرية كبيرة تدل على أن العقول التى فهمت هذا لم تتصور كيف هو الله، أو كيف هو فى أذهانهم؟ فمن خلال ما طرحوه فى هذا الشأن ظهر أن الله عندهم وفى أذهانهم إنما يقوم بإجراء تجارب على البشر، فينجح بعض التجارب، ويفشل البعض الآخر، فيقرر العدول عن التجربة الفاشلة، ثم يضع بدلًا منها تجربة أخرى، فإن نجحت كتب لها البقاء، وهو فى كل الأحوال ينتظر نتيجة التجربة، ويترقب ردود أفعال البشر، سبحانه وتعالى عما يتصورون، هذا هو الله عندهم وهو الله الذى نسبحه وننزهه عن النقائص، ولا تتعجب فهذا يا صديقى هو عين ما يقوله أهل النقل من الحُفاظِ أولئك الذين يقولون إن الله سبحانه وتعالى وضع آيات فى القرآن ثم قام بنسخها، وتغيير أحكامها، وإن أبقى عليها لفظًا، إلا أنها مجرد ألفاظ فى القرآن نتعبد بها دون أن نطبق أحكامها! وكأنها ألفاظ وكلمات وحروف موجودة فى القرآن من باب الذكرى الخالدة! ويا لبؤس ما يقولون.

فإذا قلت لهم: هذه «تصورات لله» إغريقية الصنع، إسرائيلية الهوى، تقترب من أخيلة اليونان عن آلهة «جبل الأوليمب» قالوا لك بل إنها عقيدتنا التى فهمناها من القرآن، ألم يقل الله «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها» ها! ماذا تقول فى ذلك؟ نعم أيها السادة الحُفاظ، قال الله ذلك فى سورة «البقرة» بالفعل، ولكن هل قرأتم سورة «البقرة»؟ هل وعيتم ما فيها؟ هل عرفتم لمن كان الخطاب فى آية «ما ننسخ من آية»؟ فلنفتح القرآن معًا، نعم أنا أثق فى حفظكم ولكن اقرأوا من الآية رقم ٤٠ لتجدوا أن الله فَتَحَ من أول هذه الآية حوارًا مع بنى إسرائيل، فبدأ الحوار بقوله: «يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم»، ويستمر حديث الله عن بنى إسرائيل إلى أن يقول لهم: «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها»، أى ما ننسخ من آية من آيات التوراة أو نجعلها نسيًا منسيًا، إلا وأنزلنا آية مثلها فى القرآن أو خيرًا منها، ولذلك فإن هذه الآية لا تتحدث أبدًا عن إلغاء آيات القرآن بعضها بعضًا، بل عن إلغاء آيات القرآن أحكام بعض آيات التوراة والكتب السماوية السابقة، فإذا كان اليهود قد كرهوا أن يُنـزَّل على رسول اللّه، صلى الله عليه وسلم، أحكام تلغى أحكام التوراة، كاستقبال بيت المقدس مثلًا، فالله تعالى يرد على هذا، مؤكدًا أن الآيات التى يلغيها من التوراة يأتى بخير منها، وأن ما ينساه اليهود من كتبهم، يُنـزل الله فى القرآن خيرًا منه، فلماذا فهم أهل النقل أن الآيات المنسوخة هى آيات القرآن؟! ولماذا حتى لم تتجه أذهانهم إلى أن الآيات المقصودة قد تكون آيات كونية وليست قرآنية؟ سبب ذلك أنهم لم يستطيعوا التوفيق بين بعض الآيات التى قد يبدو منها تعارض ظاهرى، إذ أخذوا تلك الآيات بعيدة عن سياقها العام وجردوها من سببها واعتقدوا أنها متناقضة فكان يجب عليهم أن يزيلوا التعارض، فأزالوا الآيات، وقد نلتمس لهم العذر فى هذا ولكن لا يمكن أن نسايرهم فيما ذهبوا إليه.

فلنا أن نضرب الأمثال لتتضح لنا الصورة كاملة، إذ يقول أصحاب النقل إن آيات القتال فى القرآن نَسخت آيات الرحمة! فأصبح الإسلام هو دين القتال لا دين الرحمة، فلك أن تضرب الصفح عن قول الله سبحانه «لا إكراه فى الدين» ولك أن تنسى إلى الأبد قول الله سبحانه «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» فهذه آيات وضعها الله للمسلمين وقت أن كانوا ضعفاء، أما وقد قامت لهم دولة فى المدينة فلا مكان إلا للسيف، نعم يا أخى! يقول الله لنا فى سورة «البقرة» المدنية «وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين»، فإذا قويت شوكة المسلمين، إذ بالله يحب المعتدين ويأمر المسلمين بالاعتداء على غير المؤمنين! من وضع هذه الفكرة فى ضمائركم، كيف تتصورون الله أيها البؤساء! يقول الله للنبى، صلى الله عليه وسلم «ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا» ثم يعاتبه قائلًا: «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» ثم يعدل الله عن مشيئته هذه ويأمره فى المدينة أن يُكْرِه الناسَ على الإسلام! هل تعرفون عمن تتكلمون أيها الأشقياء. 

القرآن أيها النساخون كتاب أُحكمت آياته، هكذا قال لنا الله سبحانه «كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير»، القرآن مُحكم أيها الناس ولو كان فيه نسخ ما كان محكمًا، لأن إلغاء بعض الآيات يتنافى مع معانى الإحكام، القرآن أيها النساخون ليس فيه اختلاف، ولو كان فيه ناسخ ومنسوخ لكان فيه اختلاف، والله سبحانه يقول: «أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيها اختلافًا كثيرًا»، القرآن ليس فيه، أيها البؤساء، أى تبديل لأى كلمة من كلماته، ولو كان فيه تبديل لكان معنى ذلك أنكم تتهمون الله بالكذب، ألم يقل سبحانه: «واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدًا»، فكيف بعد ذلك كله تقولون إن الله وضع أحكامًا طلب من المسلمين أن يتبعوها ثم عدل عن حكمه بعد ذلك ووضع لهم حكمًا آخر مختلفًا.

ولكن الأكثر نكدًا أن تسمع هؤلاء الحفاظ، وهم يقولون إن الأحاديث تنسخ القرآن! فيرتفع صوت أحدهم وهو جالس على منبره مشمرًا عن أكمامه قائلًا: «إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رجم الزانى المحصن والزانية المحصنة وهذا الفعل من الرسول فيه نسخ لآية سورة النور الخاصة بالجلد»، يا رب ثبت عقولنا! يبدأ الله سورة «النور» بقوله «سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون» وهذه الافتتاحية لم تكن إلا لسورة «النور» فقط، سورة أنزلناها وفرضناها! الله سبحانه هنا يؤكد أن ما فى هذه السورة فريضة، أى أوجبنا ما فيها من الأحكام وألزمناكم العمل بها، وبعد ذلك التشديد يأتى من يقول إن هناك رجمًا حدث من الرسول لزناة محصنين، وإن هذا الرجم يغيّر الآيات التى قال الله لنا إنها ملزمة لنا ومفروضة علينا! والله لقد وقف شعرى من زعمكم الشنيع هذا.

ثم يكتب الله علينا أمرًا، عندما يقول إنه كُتب علينا، فإن دلالة الكتابة هذه تدل على التوثيق والفرض، فيقول مثلًا: «كُتب عليكم الصيام»، فنعرف أن الصيام هنا فريضة من الفرائض الكبرى، ويقول لنا «كُتب عليكم القِصاص»، فنعرف أن القِصاص من أعلى الواجبات التى افترضها الله علينا حتى تستقيم الحياة ويقوم العدل، ثم يذكر الله فى سورة «البقرة» آية للوصية فقال فيها «كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا على المتقين»، وبداية الآية فيها إلزام بالوصية، وجاء الإلزام عن طريق كلمة «كُتب» وهى نفس الكلمة التى قال الله قبلها بثلاث آيات «كُتب عليكم القصاص» وهى أيضًا نفس الكلمة التى قالها فى آية الصوم بعدها بثلاث آيات «كُتب عليكم الصيام»، أى هى فى النصف بين القِصاص والصيام، ثم يأتى بعد ذلك من يقول إن الأمر الذى كتبه الله علينا بالوصية للوالدين قام بإلغائه، إذ يبدو أن التجربة فى الصيام والقصاص نجحت ولكنها لم تنجح فى الوصية! لذلك فإن الله نسخ آية الوصية بآيات المواريث، ثم نسخ الوصية أيضًا بحديث نسبوه للرسول، صلى الله عليه وسلم، جاء فيه «لا وصية لوارث» و«لا وصية إلا فى حدود الثلث» وهذا كله محض كلام ظنى لا يمكن أبدًا أن يقوله عاقل يعرف الله سبحانه حق المعرفة، فإن الظن لا يغنى من الحق شيئًا.

الوصية أيها البؤساء قائمة، وهى للوالدين وللورثة، وهى الأصل الذى يجُب أحكام الميراث، وللمسلم أن يوصى وفقًا للقرآن -كلام الله سبحانه- بكل ماله، الوصية أيها المساكين لا يمكن أن ينسخها إنسان، لأن الذى أوجبها علينا هو رب الناس، الوصية يا ناس لم تنسخها آية أو حديث، وآيات المواريث ما فتئ الله يقول فى نهاية كل آية من آياتها «من بعد وصية يُوصِى بها أو دين» و«من بعد وصية يوصين بها أو دين» و«من بعد وصية يُوصَى بها أو دين» أى أنه يتم استخراج الديون والوصية من مال التركة ثم تقسم التركة بعد ذلك على الورثة وفقًا للأنصبة الشرعية، فكيف وأيم الله تكون هذه الآيات ناسخة لآية الوصية المكتوبة علينا للوالدين والأقربين أى للورثة، أليس الوالدان ورثة؟! الله يا خلق الله ليس كمثله شىء، كل خلقه يرد عليهم التغيير وهو صمد لا يتغير، يا من تتكلمون باسم الله، هل تعرفون الله؟