رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في ذكرى اغتياله..

ننشر قصيدة «شفق على سور المدينة» المهداة من «حجازي» لروح فرج فودة

شهيد الكلمة فرج فودة
شهيد الكلمة فرج فودة

في مقدمة كتابه "قبل السقوط" يقول شهيد الكلمة الدكتور فرج فودة، والذي استشهد في مثل هذا اليوم من العام 1992: "لا أبالي إذا كنتُ في جانب والجميع في جانب آخر، ولا أحزن إنْ ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم، ولا أجزع إن خذلني مَن يؤمن بما أقول، ولا أفزع إنْ هاجمني مَن يفزعُ لما أقول، وإنما يؤرقني أَشدُّ الأرق أنْ لا تصل هذه الرسالة إلى مَن قصدت، فأنا أُخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة."

فرج فودة شهيد الكلمة الذي اغتالته رصاصات جاهل أمي لم يقرأ له حرفا، على بعد خطوات من مكتبه في مصر الجديد، حيث "نبتت مكان دمائه شجرة" كما كشف لنا المهندس اسحاق حنا، رئيس الجمعية المصرية للتنوير، والذي خص الــ"الدستور" بقصيدة نظمها الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، والتي أهداها إلي الشهيد فرج فودة، تحت عنوان "شفق علي سور المدينة"، والتي كتبها بعد إستشهاده بأيام قليلة.

دُمُه الذى أهريق فى أقصى المدينة وردةً
قامت من الرمل الذى مطر البلاد
دُمُه الطمى المعذب تحت عصف الريح
صرختنا الأخيرة
جرحنا المفتوح فى هذا السواد
دمه من الشمس الأسيرة خُصلة من شعرها                                                           
شفق على سور المدينة راعفٌ قانٍ
يردُ ظلام يأجوج ومأجوج,
تألق جمرةِ ياقوتة
ستظل تشهق فى الرمادْ
إلى نهاية ما يكون من الخراب 
إلى القيامة والمعادْ
هَمَجٌ رمت بهم الصحارى جَنة المأوى
تهِر كلابُهم فيها, وتأجر فى المدى قطعانُهم
يمشون فى سُحُب الجراد
كأن أوجُههُم لغربانٍ
وأعينَهُم لذؤبانٍ
وأرجَلهُم لثيرانٍ
يدوسون البلادَ، ويزرعون خرابَهم فى كل وادْ
رملٌ منازلها
حدائُقها وكانت للظلال الخُضر
كانت لليمامة فى الضحى الساجِى
وكانت للزنابق والأقاحْ
صارت خرائب سَبْخة يتصاعد الكبريت 
والقطران فيها
رملٌ شوارعُها، مقاهيها، صُدورُ نسائها،
صُحُفُ الصباحْ
رملٌ غريبُ يرتعيها
متناسلُ كالسوس ينخر فى البلادِ وساكنيها
رملٌ مَدائنُها , قُراهَا
نهرُها المولودُ من خطوْ الربيع على
التلال البكر
من قوس سماوىٌ  تحدر واستراح على
فِراشَ الأرض
من ضرْع إلهىٌ تدلى فوق أفواه الخليقة
نهرها فرسُ السماء، براقُها القُزحىٌ
سارق عشبها للناس
خر مُحاصراً بالرمل، مسفوحاً على وجه البطاح
رملٌ أهلتُها، منارَتُها، نجوم سمائِها
رملٌ 
وأهلوها الذين تصحروا
صاروا دُمى محشوة بالرمل ترحلُ فى اليباب 
تجوبةُ تيهاً فتيها
من يشترى هذه الدُمى؟ من يشتريها ؟
أبناءُ أوزوريس!
ما شجَر أفاءَ على ثرى إلا وفيه من أبيهم خفقةُ
ما قصعة للخُبزِ، ما إبريقُ ماءٍ ليس فيه حنَيةُ من ضِلعةُ
أبناءُ أوزوريسَ صاروا لليبابِ
وجُوههمْ، وأكفُهمْ، أهدابُ أعينهمْ، أصابعهم، لحاهُم 
خبزهم رملٌ، خُطاهمْ فى الغُدوِ وفى الرواحْ
أبناؤهم وبناتُهم رملٌ مُباحْ !
وأنا الذى كحلت عينى من صبا ذات العمادْ
أقلِبُ الطَرْفَ الحسيرَ بها
وأنشجُ ليس تُسعفنى دموعى
فى كل رُكنٍ لى من الذكرى بكاءَ
تحت كلَ شجيرةٍ قبلتَ ورداً ناعماً
وشربتُ كأساً فاغماً
ومشيتُ مختالا يطاوعنى النديم,
ويرتمى زبدُ الليالى خلف أذيالى 
وأوغل فى التألق والسطوع
ياليت إنى أستطيعُ
إذن وضعتُ مكان ما ينهارُ من أجرْةٍ أو شُرفةِ
ضلعاً سوياً من ضلوعى 
إرمُ التى لم يبن بان مثلها
كانت ولم تَكُ بعدُ عادْ
كانت لفلاحينَ، ملاحينَ، عشاقِ، بناةِ
مُطربين، مؤذنينْ
لا للطغاةِ الهالكينْ
كانت كأن قصيدةٌ خرجت من الكلمات، فهى مدينةٌ
نهرُ يضاجع ربوةً
تنجاب رغوتُه السخية عن حدائقَ ذات أعنابٍ 
منازلَ ذات أقمارٍ، مدى
كون من الأحلام والرغبات 
إيقاعات أجساد مسهدةِ تطير بأمسيات الصيف
حين يطيبُ فى الصيف السهادْ
صرخاتُ ميلادٍ، وأغنيات عرسٍ.
دورة سحرية يتعانق الأحياءُ
والأمواتُ فيها 
والأجنةُ والسنونُ الخضرُ والسودُ الشدادَ
إرمُ التى لم يبن بانٍ مثلها
من يفتديها الآن وهى تئن تحت الرمل  
من يعطى لسيدة البلاد ذراعهُ ؟ من يفتديها ؟
دَمُهُ الذى أهُريق فيها
دَمُهُ نهايةُ قاتليه وقاتليها
دَمُهُ ولادتُها الجديدة صرخةُ
طافت على إرم تناديها وتمسح خوفها عنها
وتَمسح عن بنيها
دَمُهُ عبارتُه التى صَدَقتْ فساوت روحَهُ
صارت كلاماً خالقاً
صارت دماً يرفضُ من قلب المداد
ياأيُها الرمل إرتحل!
ياأيُها الرمل إرتحل!
واذهب لشأنك  ياجراد !
إرَمُ الجديدة من دم الكُتاب تولدُ
من كلام الشاعر المنفى عنها يومَ عاث بها الفسادُ
وعربدت فيها الطغاة
الآن أصبح للعبارة أن تسير على الشفاه
فتنحني كل الجباه.