رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

21 كلمة على شرف إيفيلين بوريه

كنت أود من صميم القلب لو أن قلمى كان سلاحًا أضعه على كتفى، وأقف بتواضع فى طابور حرس لأصوّب ٢١ كلمة على شرف «إيفيلين بوريه»، التى فارقتنا فى الأول من يونيو الحالى عن عمر ناهز الثمانين عامًا، قضت منها نحو نصف قرن بين الفلاحين المصريين فى قرية «تونس» النائية بالفيوم.

هناك ظلت بدأب وحب تعلّم الفلاحين وأبناءهم كيف يحولون الطين إلى تحف فنية والخزف إلى أشكال ساحرة.. وحسب وصيتها، دُفنت «إيفيلين»، وهى السويسرية، فى القرية المصرية مع فلاحين بسطاء عاشت معهم ولأجلهم أنشأت مدرسة لتعليمهم الحرف الفنية، عاشت «إيفيلين» فى القرية السنوات العشر الأولى على «لمبة جاز» من دون كهرباء أو ماء نظيف أو أى مظهر من مظاهر المدنية! وظلت تعلم الفلاحين بدأب وحب وإصرار، وأتقنت اللهجة المحلية، وكان الفلاحون ينادونها بالست «أم أنجلو».

وعلى مدى نصف قرن لم تظهر إيفيلين ولا مرة على شاشة تليفزيون أو فى برنامج أو صحف أو مراكز ثقافية ولا سمع أحد صوتها عبر الأثير، وكانت إذا طلب منها أحد حوارًا تقول: «تكلموا مع أولادى.. أنا مش لازم».

ومثلما يحدث دائمًا، سوف تختفى تفاصيل حياة تلك السيدة الرائعة، وسيبقى فقط مغزى حياتها حين تمسى حياة الآخرين هى حياة المرء، وسعادتهم سعادته.

أنهت إيفيلين دراستها فى جامعة جنيف قسم الفنون التطبيقية فى بلدها سويسرا، وجاءت إلى مصر فى الستينيات مع والدها الذى كان يعمل فى الكنيسة السويسرية بالقاهرة، وتعرفت إلى الشاعر سيد حجاب، وتزوجته رغم أنه كان فقيرًا لا يملك شيئًا، وسرعان ما تم اعتقال حجاب مع الأبنودى وصلاح عيسى وآخرين فى سبتمبر ١٩٦٦، وتمكنت إيفيلين وحدها من نقل رسالة إلى «جان بول سارتر»، خلال زيارته القاهرة عام ١٩٦٧، تطلب منه التدخل لدى عبدالناصر للإفراج عن المعتقلين، وكانت وحدها من يستطيع القيام بتلك المهمة لأنها أجنبية لن ينتبه إليها رجال الأمن عند مصافحتها «سارتر»، وبالفعل تم الإفراج عن المعتقلين، وصارت إيفيلين أسطورة بين المثقفين. 

وسرعان ما انفصلت عن حجاب لتتزوج من الفرنسى ميشال باستورى، الذى عاش معها حتى النهاية فى القرية ذاتها، ومنه أنجبت ابنها «أنجلو» وابنتها، وظلت تعلّم الفلاحين حرفة الفخار والخزف، وتساعدهم حتى أصبحت للغالبية منهم ورشة خاصة، وأسهمت إيفيلين فى تحويل القرية النائية إلى مقصد سياحى عالمى. 

ولكم تبدو قصة إيفيلين الآن ونحن نحكيها بسيطة وقصيرة، ولكم كانت فى الحقيقة شاقة وطويلة، مثل قصة الدكتور المصرى أشرف عمارة الذى توفى فى مارس العام الماضى فى كينيا، فجاء فى نعى الشعب الكينى له: «إنه يوم حزين للغاية، فقد فقدنا الطبيب الذى رسم البسمة على شفاه أطفالنا»، بعد أن أمضى د. أشرف قرابة ١٥ عامًا فى كينيا ليعالج الجميع، وبعد أن نقل خبراته فى الجراحة إلى تلاميذه فى الصومال وأوغندا وجيبوتى.

لقد اختار هو الآخر أن تكون سعادة الآخرين سعادته، وعندما تختفى التفاصيل سيبقى من د. عمارة مغزى حياته، كما توارت تفاصيل كثيرة بشأن مصرع «جيفارا» فى أكتوبر ١٩٦٧ فى بوليفيا، وبقى فقط مغزى حياته الذى لخصه هو بعبارة بليغة حين قال: «وطنى هناك أينما كان الظلم».

لم تنشغل إيفيلين بوريه بالشعارات الثورية، لقد قررت أن تقوم بعمل صغير بسيط ونافع ومؤثر، وبفضل ذلك التواضع وحبها للآخرين كنت أود من صميم قلبى لو أن قلمى كان سلاحًا أضعه على كتفى، وأقف بتواضع فى طابور حرس لأصوّب ٢١ كلمة على شرف إيفيلين بوريه لحظة وداعها.