رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إثيوبيا 1984.. طبق الأصل

مجاعة وشيكة فى إثيوبيا قد تودى بحياة مئات الآلاف أو أكثر، حسب بيان أصدره مارك لوكوك، منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، طالب فيه «المجتمع الدولى» بأن يكثف جهوده لمواجهة أسوأ مجاعة شهدها العالم منذ تلك التى حدثت سنة ١٩٨٤، فى الدولة نفسها. ولأن الحذر لا يمنع القدر، لا نستبعد أن يعيد التاريخ نفسه، مع تغييرات طفيفة يفرضها أن الصين قد تنجح، ولو جزئيًا، فيما فشل فيه الاتحاد السوفيتى فى السيناريو السابق.

الضباب الكثيف، الذى أطلقت أزمة «سد النهضة» بعضه، وخرج بعضه الآخر من الصراع فى إقليم تيجراى ومن الاشتباكات الحدودية مع السودان، أخفى وراءه حربًا طاحنة بين الولايات المتحدة والصين، للسيطرة على إثيوبيا، سياسيًا واقتصاديًا. وليس بعيدًا أن تكون واشنطن قد عملت، بشكل أو بآخر، على إشعال الاضطرابات فى الداخل الإثيوبى، حتى تعرقل التمدد الصينى، الذى ربما كان سببه، أو أحد أسبابه، محاولة الطبقة الإثيوبية الحاكمة تحصين نفسها من مخطط أمريكى محتمل للإطاحة بها. كما قد تكون موجات تهدئة وتصعيد الخطاب المتعلق بسد النهضة، مرتبطة أيضًا بتلك المحاولة، مع ارتباطها الوثيق بالتفاعلات السياسية الداخلية. 

المجاعة التى ضربت إثيوبيا بين عامى ١٩٨٤ و١٩٨٥ أودت بحياة نحو مليون شخص، طبقًا لتقارير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، وشبكة الإنذار بشأن المجاعات التى تموّلها الولايات المتحدة، وقيل إن المساعدات الغربية التى تدفقت على تلك الدولة أنقذت أرواح ملايين آخرين، مع أن ٩٥٪ من تلك المساعدات تم استخدامها لشراء أسلحة للمتمردين ودعم جهودهم للإطاحة بالحكومة: ٥٪ فقط من المساعدات استُخدمت للإغاثة، حسب أريجاوى بيرهى، القائد السابق لجيش جبهة تحرير تيجراى، الذى أكد أن النسبة الباقية من المساعدات والتبرعات جرى توجيهها لشراء الأسلحة: لولا تلك الأموال ما استطعنا الحصول على السلاح.

حدثت تلك المجاعة، فى سنوات الحرب الباردة الأخيرة، التى قدم خلالها الاتحاد السوفيتى مليارات الدولارات لدعم الحكومة الإثيوبية، وأرسل ضباطًا لتوجيه عملياتها ضد المتمردين، مع أسلحة سوفيتية، نقلها جسر جوىّ ضخم. لكن أحدًا لم يطرح أسئلة بديهية عن كيفية حصول المتمردين على السلاح، الذى مكنهم من التصدى لهجمات الجيش الحكومى، أو عن علاقة هؤلاء المتمردين ببرنامج إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق، رونالد ريجان، أو «مبدأ ريجان» لمواجهة أنشطة الاتحاد السوفيتى أو ما وصفه بـ«إمبراطورية الشر» فى الدول النامية.

كانت إثيوبيا فى عهد الإمبراطور هيلا سيلاسى حليفًا قويًا للولايات المتحدة، وشارك جنودها مع الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، وقاتلوا جنبًا إلى جنب مع الأمريكيين فى الحرب الكورية. كما كانت، ولا تزال، من أبرز الدول الإفريقية، التى لها علاقات قوية مع إسرائيل، لكن بعد انقلاب منجستو هيلا مريام، الذى أطاح بسيلاسى سنة ١٩٧٤، انفتحت إثيوبيا على الاتحاد السوفيتى، وصارت مركزًا للمعسكر الاشتراكى فى القرن الإفريقى. 

مع تفكك الاتحاد السوفيتى، انهار الجيش الإثيوبى ولم يتمكن من مواجهة حرب العصابات، وصولًا إلى سيطرة قوات «الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية» على أديس أبابا، فى مايو ١٩٩١، وفرار منجستو هيلا مريام إلى زيمبابوى، وعودة إثيوبيا إلى أحضان الولايات المتحدة، لتصبح أقوى أدواتها فى تنفيذ مخططاتها فى القرن الإفريقى وحوض النيل، ما منحها مساحة كبيرة للتحرك فى المنطقة وقلل طموحات إقليمية لعدد من الدول المنافسة.

ظلت أديس أبابا تنعم بالرعاية الأمريكية، إلى أن دخلت الصين على الخط، وصارت أكبر مصدر للاستثمار الأجنبى المباشر فى إثيوبيا، لدرجة أن الاستثمارات الصينية مثّلت التمويل الرئيسى لما يزيد على ٦٠٪ من المشروعات التى جرى تنفيذها فى إثيوبيا خلال عامى ٢٠١٩ و٢٠٢٠.

فور إعلان إثيوبيا عن استراتيجيتها الرقمية الأولى، فى مايو ٢٠٢٠، أكدت بيلين سيوم، المتحدثة باسم رئيس الوزراء الإثيوبى، أن بلادها ترحب بالدعم الصينى لتنفيذ هذه الاستراتيجية، كما أعلنت السفارة الصينية فى أديس أبابا، خلال فبراير الماضى، عن توقيع اتفاق لتعزيز التعاون التكنولوجى بين البلدين، دون ذكر تفاصيل عن طبيعة هذا التعاون، وفى مارس قام البلدان بتوقيع اتفاق لوضع آلية لحماية المشروعات الرئيسية فى إطار مبادرة الحزام والطريق، وقالت وكالة شينخوا الصينية إن هذا الاتفاق يلعب دورًا مهمًا فى تعزيز أمن الاستثمارات الصينية فى إثيوبيا.

شواهد أخرى كثيرة تقول إن سيناريو ١٩٨٤ يتكرر، الآن، أبرزها أن هناك مئات الآلاف يواجهون شبح الموت جوعًا، فى إقليم تيجراى وفى الشمال الإثيوبى إجمالًا، كما جاء فى بيان منسق الأمم المتحدة للشئون الإنسانية، ومهما اختلفت تفاصيل سيناريو ٢٠٢١، فإن النهاية ستكون واحدة: الإطاحة بالطبقة أو المجموعة العميلة الحاكمة، التى يتزعمها أبى أحمد. والمؤسف، أن يكون الشعب الإثيوبى، فى المرتين، هو حطب أو وقود المعارك والصراعات.