رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المطبوعون والمصنوعون


الشخص المطبوع هو الذي يتصرف حسب طبيعته من غير تكلف، كما تخبرنا المعاجم اللغوية، وعكسه المصنوع المتكلف في جميع تصرفاته، وحين يقال عن شاعر من الشعراء إنه مطبوع فهذا يعني أنه يأتي شعرًا دون تكلف، ونقيضه المصنوع المتكلف فيما يأتي من شعر. ومن ضمن مصائبنا غلبة المصنوعين على المطبوعين في كافة المجالات؛ ومن أسباب ذلك الاستسهال، حتى في المجالات التي تعتمد على طاقات المواهب لا جهود الموظفين، أعني استسهال الصعود في هذه المجالات اعتمادًا على قدرة الراغب فيها على صنع ما يبهر، حتى لو كان الإبهار مجانيًا ومؤقتًا، ومن الأسباب أيضًا انتشار الوسائط التي تقدم للمجالات المختلفة مصنوعين لا مطبوعين، لم تنضج ثمارهم بعد.
كان من نتيجة ذلك خلو الساحات المعتبرة من الحقيقيين، واكتظاظها بالأدعياء، وكان من نتيجته انتقال عدوى الشخص المصنوع إلى جملة طويلة من الأشخاص المتلقين الذين يستحسنون ما لديه من الألاعيب بدون أناة ولا تفكير، وكان من نتيجته إحباط هائل أصاب المتفردين بخلق الجمال الخالص؛ فقد تقهقروا وتقدم المتأخرون، وأفلسوا وغني الذين لا يصح أن يملكوا الغنى، وانزووا، مع امتلائهم العبقري المدهش، واشتهر الفارغون التافهون وراجت بضائعهم! 
لا يوجه النقاد وذوو الخبرات، حين يقبل على ندوة متخصصة عضو جديد ذو إمكانيات مبشرة في الفن أو الأدب، كمثال، إلى ضرورة أن يحرص الجميع على أن يتخلصوا من "الشخصية المصنوعة" إن أحسوها بداخلهم، ولو بالتدريج، ويحاولوا الوصول إلى "الشخصية المطبوعة"، ومع عدم التوجيه، يمعن الوافد في الحرص على حالته التي كان وفد إلى الندوة بها، وغالبًا ما تكون منتمية إلى الصناعة لا الطباعة؛ وعلى هذا لا تفرخ الندوات أفرادًا يكون منهم، في المستقبل، رموز، وإنما الناتج النهائي يكون أفرادًا عاديين، فليسوا بالمميزين ولا الفارقين، وليسوا على مقاس الحلم الذي يحلم به الطامحون، وحتى لو نجحوا عمليًة في أعمالهم وبرزوا من خلالها؛ فالأمر غالبًا لا يعني نبوغًا مقدار ما يعني عونًا مكنهم من النفاذ..
لقد شهدت موتًا معنويًا كثيرًا لجماعات من البشر، ممن كانوا لا يتكلفون الأشياء، أي لا يحملون على أنفسهم ما ليس من عاداتهم، ولكنهم يتسمون بالصدق التام  مع أنفسهم، وشهدت في المقابل انتعاشًا ملحوظًا لجماعات بشرية من المتكلفين، هكذا في نطاقات متنوعة، ولكن منعني من اليأس كوني متفائلًا. 
بالأمس القريب، سألني سائل: لماذا لم نعد نملك قممًا كالسابقين في شتى دوائرنا؟ كان سؤاله استنكاريًا لا استفهاميًا، وكانت إجابتي القطعية الواضحة: نملك أمثال هؤلاء، غير أن المصنوعين في الصدارة، لأنهم الأغلبية حاليًا، ويخافون على لقمة عيشهم لو شاركهم المطبوعون الأعمال ففضحوا ضحالتهم وضآلتهم.. هكذا مخاوفهم، لكن مصلحة بلدنا العريق العزيز يجب أن تكون أقرب إلينا من تفضيل مصنوع على مطبوع!