رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما بين الحلفاء!

العلاقات الجيدة بين الدول، لا تعنى أبدًا إسقاط صفة الخيانة عن الذين يتخابرون مع إحداها ضد الأخرى. ومن البديهيات، القانونية والمنطقية، أن التحالفات وعبارات الود، التى يتبادلها رؤساء الدول، لا تُوقف أنشطة التجسس أو تمنع معاقبة الجواسيس. وهناك وقائع عديدة تغنينا عن إضاعة الوقت فى محاولة نفى شروق الشمس من الغرب!

خلال الأيام القليلة الماضية تكشفت فصول جديدة من عمليات التجسس الأمريكى على زعماء وسياسيين فى الدول الأوروبية الحليفة، التى كانت تسريبات إدوارد سنودن، العميل السابق فى «وكالة الأمن القومى الأمريكية»، قد كشفت عن بعض تفاصيلها سنة ٢٠١٣، كما كشفت أيضًا عن قيام بريطانيا بالتجسس لأكثر من ١٨ سنة على منظومة «الطائرات دون طيار» الإسرائيلية، وتنصتت على دبلوماسيين إسرائيليين فى الداخل والخارج، وعلى اتصالات مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلى وأجهزة فى الدولة و... و... و«الجامعة العبرية» فى القدس.

برنامج شئون مخابراتية، أو إنتلجنس ماترز، الذى تعرضه قناة «سى بى إس نيوز» الأمريكية، استضاف، منذ سنة، تقريبًا، تامير باردو، مدير جهاز المخابرات الإسرائيلى «الموساد» الأسبق، ومايكل موريل، المسئول السابق فى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «سى آى إيه». وفى تلك الحلقة، قال «باردو» إن رجال المخابرات الأمريكية، البريطانية، الفرنسية، الإيطالية، والإسرائيلية، يحاربون بعضهم بعضًا بشكل جيد، لكنهم يتواصلون أيضًا بشكل جيد. وبالنص قال: يمكنك أن تكون عدوًا عندما تخرج من الغرفة، أو عندما تدير ظهرك، لكن عندما تكون جالسًا معهم، فإنه بإمكانك التحدث معهم كثيرًا، ومناقشتهم فى الكثير من العقبات التى يمكن أن تواجهك.

ما يؤكد ذلك، هو أن التحالف السياسى الأمنى والعسكرى والمخابراتى، بين الولايات المتحدة وإسرائيل، مثلًا، لم يحُل سقوط ومعاقبة جواسيس لإحداهما داخل الأخرى، فى وقائع متباينة زمنيًّا. وبين عمليات التجسس الإسرائيلية الكثيرة ضد الولايات المتحدة، أو العكس، تكتسب حالة جوناثان بولارد، أهمية خاصة، ليس فقط لأنها الأشهر، ولكن أيضًا لكونها نموذجًا فجًا لتغليب الولاء العقائدى على مصلحة الوطن. وهذا بالضبط هو حال قادة «جماعة الإخوان»، الذين أدينوا وعوقبوا فى القضية المعروفة إعلاميًا بـ«التخابر مع حماس»، والذين يحاول بعض البلهاء، أو العملاء، التشكيك فى خيانتهم أو عمالتهم، كلما فتحت مصر ذراعيها لقيادات الحركة!

حكم الجنايات فى هذه القضية نهائى، وسيصبح باتًا غير قابل للطعن عليه، لو أيدته محكمة النقض فى يوليو القادم. وهذا ما حدث مع جوناثان بولارد، الذى كان يعمل فى مخابرات سلاح البحرية الأمريكية، وتم إلقاء القبض عليه سنة ١٩٨٥ بتهمة التجسس لحساب إسرائيل، وعوقب بالسجن مدى الحياة. وقوبلت المطالبات والضغوط الإسرائيلية، للإفراج عنه برفض قاطع.

بعد ثلاثين سنة، قضاها فى السجن، حصل «بولارد» على «إفراج مشروط»، كان أبرز شروطه هو عدم مغادرة الأراضى الأمريكية. وهو الشرط الذى تم إلغاؤه فى نوفمبر الماضى، وفى اليوم الأخير من ديسمبر وصل المذكور إلى مطار بن جوريون على متن طائرة خاصة، واستقبله بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى، وقام بتسليمه وزوجته هويتيهما الإسرائيليتين.

تقرير البنتاجون، عن حجم الضرر، الذى تسبب فيه تجسس «بولارد»، لا يزال سريًا. غير أن وثائق رفعت عنها الـ«سى آى إيه» السرية، سنة ٢٠١٢، قالت إن القوات الإسرائيلية استندت إلى معلومات حصلت عليها من «بولارد» فى التخطيط للغارة التى شنتها، فى أكتوبر ١٩٨٥، على مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية فى تونس. وفى كتابه «أرض الأكاذيب: القصة الحصرية لجوناثان جاى بولارد: الأمريكى الذى تجسس على بلاده لصالح إسرائيل وكيف تعرض للخيانة»، الصادر سنة ١٩٨٩، أكد وولف بليتزر، أن «بولارد» قدم لإسرائيل كنزًا من المعلومات.

على عكس مخابيل الإخوان والتابعين، ظل الإسرائيليون ينفون أن عمالة «بولارد» لحسابهم، إلى أن أقروا بذلك، بعد عشر سنوات تقريبًا، واعتذروا عنه، وتعهدوا بعدم تكراره. غير أن السلطات الأمريكية أسقطت، سنة ٢٠٠٦، لورانس فرانكلين، الموظف السابق فى وزارة الدفاع الأمريكية، وعوقب بالسجن لمدة ١٣ عامًا بسبب تمريره وثائق سرية لإسرائيل. وأكد مجلس الأمن القومى الأمريكى، فى تقرير أصدره سنة ٢٠١٤ أن الإسرائيليين استمروا فى التجسس على الولايات المتحدة لمعرفة موقفها من أزمات الشرق الأوسط. كما ذكرت مجلة «نيوزويك» فى مايو من السنة نفسها، أن إسرائيل جندت عشرات الجواسيس للحصول على معلومات صناعية وتقنية. وأثناء المفاوضات الأمريكية الإيرانية، قبل الاتفاق النووى، اكتشف مسئولون فى البيت الأبيض أن إسرائيل تتجسس على المحادثات، و... و...إلخ.

.. وأخيرًا، لا فرق فى كل قوانين عقوبات دول العالم بين التخابر أو التجسس لحساب عدو لدود أو حليف قريب. وبديهى، بديهى جدًا، أن يوصم بالخيانة كل مَنْ يقوم بتغليب ولائه لمعتقده، لجماعته، أو حتى لزوجته، على مصلحة وطنه.