رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رفاعة الطهطاوى.. وطن نصنعه ويصنعنا

توفى رفاعة رافع الطهطاوى فى ٢٧ مايو ١٨٧٣، وتمر هذه الأيام ذكرى رحيله الثامنة والأربعون بعد المائة.. وقد كان الأديب الكبير بهاء طاهر محقًا حين وصف كبار المثقفين المصريين الذين ظهروا بعد رفاعة بأنهم جميعًا «أبناء رفاعة».. فقد خرجت الثقافة المصرية الحديثة كلها بل والعربية من معطف ذلك الفلاح العبقرى الذى فتح أمام العلم والثقافة والتحرر الاجتماعى كل الأبواب الموصدة.. أرسلته الحكومة إلى باريس عام ١٨٢٦ إمامًا وواعظًا لطلاب بعثة، فدرس الفرنسية وترجم اثنى عشر عملًا إلى العربية قبل أن يتم قبوله عضوًا فى البعثة، علاوة على كتابه المهم «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز». 

وعند عودته إلى مصر أنشأ مدرسة الألسن وافتتحها عام ١٨٣٥، ومن ضمن مآثره الكبرى أنه استصدر قرارًا بتدريس العلوم والمعارف باللغة العربية فى وقت كانت اللغة التركية فيه السائدة، وترجم ما يزيد على خمسة وعشرين كتابًا، وكان أول من نشر مفهوم المواطنة الذى سماه «المنافع العمومية» التى تقوم على: «الحرية والإخاء والمساواة بين أبناء الوطن الواحد»، وطوّر جريدة «الوقائع» عام ١٨٤٢ من حيث الشكل والمضمون وأفسح فيها مجالًا لنشر الأدب، وكانت قبل رفاعة مجرد نشرة حكومية، ثم أصدر جريدة «روضة المدارس» عام ١٨٧٠، وهو أول من نادى بتعليم المرأة فى كتابه «المرشد الأمين فى تربية البنات والبنين»، واتخاذها صديقة وأختًا ورفيقة درب، وترجم الدستور الفرنسى ليظهر أن الحكم ينبغى أن يقوم على الفصل بين السلطات ولا يكون بيد حاكم فرد أيًا كان. 

وقد عبر الطهطاوى فى سماء مصر مثل عاصفة من النور، سرعان ما عمل الاستبداد على إطفائها مع تولى الحكم عباس باشا، الذى أغلق مدرسة الألسن ونفى رفاعة إلى السودان عام ١٨٥٠، وظل فى المنفى أربعة أعوام قام خلالها بترجمة رواية «تليماك» التى سماها «مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك»، ولعل الأدب العربى الحديث كله لم يعرف ترجمة لرواية فرنسية قبل تلك، فنبّه رفاعة إلى أهمية الأدب والقصة، وظل رفاعة فى منفاه حتى توفى عباس وتولى سعيد الحكم فرجع إلى مصر. 

وحين توفى رفاعة الطهطاوى رثاه أحمد شوقى بقوله: «أبوك كان لأبناء البلاد أبًا».. والآن انظر إلى هذا الفلاح العبقرى الذى جاء من الصعيد حين تزوج من بنت خاله عام ١٨٤٠، وسجّل بخط يده عقد قران كتب فيه بالنص: «التزم كاتب الأحرف رفاعة بدوى رافع لابنة خاله المصونة الحاجة كريمة بنت العلّامة الشيخ محمد الفرغلى الأنصارى أن يبقى معها وحدها على الزوجيَّة دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أيًا ما كانت وعلَّق عصمتَها على أخذ غيرها من نساء أو تمتع بجارية أخرى.. فإذا تزوَّج بزوجة أيًا ما كانت بنت خاله بمجرد العقد خالصة بالثلاثة»، أى أن ذلك الرجل القادم من أعماق الصعيد رأى منذ نحو مائتى سنة أن للزوجة حق الانفصال إذا عاشر زوجها غيرها أو تزوج من أخرى، كما حرّم على نفسه التمتع بما سمح به الشرع من زوجات وغير ذلك.. وكانت عبقرية الطهطاوى الفذة تسترشد بالفكرة التى صاغها الطهطاوى على النحو التالى: «فليكن الوطن محلًا للسعادة المشتركة نبنيه بالحرية والفكر والمصنع».. وطن نصنعه ويصنعنا.