رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بنو أمية فى «السكرية».. «ملوك المكر السياسى»

ظهرت شخصية عمرو بن العاص فى رواية «القاهرة الجديدة» للعالمى نجيب محفوظ، وحمل وصفه لها نظرة سياسية تتأسس على تركيز الرؤية على مهارته وحنكته السياسية فى إدارة عملية فتح مصر سنة «٢٠ هجرية». 

لم يكن عمرو بن العاص من بنى أمية، لكنه كان مشيرًا لمؤسس الدولة الأموية «معاوية بن أبى سفيان»، لذلك لم يحظ «عمرو» بما حظى به «بنو أمية» من حضور داخل أحد المواضع برواية «السكرية». 

تحكى رواية «السكرية» التحولات التى حدثت لأسرة السيد أحمد عبدالجواد خلال فترة الأربعينيات، خصوصًا على مستوى الأحفاد.. فها هو رضوان بن ياسين يتشابك فى علاقات عميقة مع رجال السياسة، ويصبح مديرًا لمكتب أحد الوزراء، أما عبدالمنعم وأحمد- أولاد خديجة- فقد تأخون الأول وأعفى لحيته وأصبح عضوًا فى الجماعة الصاعدة التى أصبحت تتمتع بصوت صاخب على الساحة السياسية، وتزوج من نعيمة ابنة عائشة، ثم توفيت وهى تنجب له طفلًا.. أما شقيقه أحمد فقد سلك دربًا مختلفًا، حيث آمن بالفكر الشيوعى وحقوق الطبقة العاملة والطبقات الفقيرة فى الحياة.

انخرط الجيل الجديد من الأحفاد فى الجماعات التى قدمت نفسها كوريث لـ«الوفد»، الذى كان الكبار على عهد الوفاء لمبادئه، ونظروا إلى «الإخوان ومصر الفتاة وحدتو» كمجموعة من الحركات المؤقتة، سرعان ما ستذوب فى الوفد أو تتلاشى وتتبخر من المشهد السياسى.

انتقل الصراع بين الإخوان والشيوعيين إلى بيت خديجة وزوجها إبراهيم شوكت، وما أكثر ما نشبت معارك كلامية بينهما حول الموقف من الدين. 

وفى سياق توجس أحمد «الشيوعى» من التمدد الملحوظ لجماعة الإخوان على الساحة وقدرتها على تجنيد الشباب، مثل أخيه عبدالمنعم، من خلال العزف على وتر الدين، جاء حديث نجيب محفوظ عن بنى أمية داخل رواية «السكرية».

انظر إلى هذا الحوار بين أحمد، نجل خديجة، وأستاذه اليسارى الكبير عدلى كريم:

- إن عيب حركتنا «يقصد الحركة الشيوعية» أنها تجذب إليها كثيرين من النفعيين غير المخلصين، من هؤلاء من يعمل بغية الأجر أو من يعمل للمصلحة الحزبية.

فقال الأستاذ عدلى كريم وهو يهز رأسه الكبير باستهانة واضحة:

- أعلم هذا حق العلم، ولكنى أعلم أيضًا أن الأمويين قد ورثوا الإسلام وهم لا يؤمنون به، ومع ذلك فهم الذين نشروه فى بقاع العالم القديم حتى إسبانيا، فمن حقنا أن نستفيد من هؤلاء، وعلينا أن نحذرهم فى الوقت نفسه، ولا تنسوا أن الزمن معنا على شرط أن نبذل ما فى وسعنا من جهد وتضحية.

- والإخوان يا أستاذ، لقد بتنا نشعر بأنهم عقبة خطيرة فى سبيلنا. 

- لا أنكر هذا، ولكنهم ليسوا بالخطورة التى تتخيلها، ألا ترى أنهم يخاطبون العقول بلغتنا فيقولون اشتراكية الإسلام؟ فحتى الرجعيون لم يجدوا بدًا من استعارة اصطلاحاتنا، وهم لو سبقونا إلى الانقلاب فسوف يحققون بعض مبادئنا ولو تحقيقًا جزئيًا، ولكنهم لن يوقفوا حركة الزمن المتقدمة إلى هدفها المحتوم، ثم إن نشر العلم كفيل بطردهم كما يطرد النور الخفافيش. 

لو أننا تأملنا عبارة «أعلم أيضًا أن الأمويين قد ورثوا الإسلام وهم لا يؤمنون به ومع ذلك فهم الذين نشروه فى بقاع العالم الجديد حتى إسبانيا»، فسنجد موقفًا متكاملًا من الدولة الأموية ومن دور الأمويين الذى تبلور بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، وهو موقف جاء على لسان الدكتور اليسارى «عدلى كريم»، فهل كان نجيب محفوظ يعبّر عن موقفه الشخصى من الأمويين وهو يغزل هذه العبارة؟

عندما جهر النبى بدعوة الإسلام كان على رأس مكة فى ذلك الوقت الأموى أبوسفيان بن حرب بن أمية، وقد رفض دعوة النبى التى تبناها بعض بنى هاشم رفضًا كاملًا، ولم يجد فيها أكثر من مناورة من جانب الحزب الهاشمى المنافس للسيطرة على مكة والعرب، وكان يردد فى مواجهة أكبر مدافع هاشمى عن النبى، وهو عمه أبوطالب، قوله: «كنتم إذا أطعمتم أطعمنا وإذا كسوتم كسونا والآن تقولون منّا نبى؟».

قاوم أبوسفيان ومن خلفه بنو أمية الدعوة المحمدية فى بدر ثم أُحد ثم الخندق، وظل الحال كذلك حتى صلح الحديبية، ثم كان فتح مكة وإخضاع قريش كاملة لدعوة الإسلام.

حتى دخول النبى، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين إلى مكة كان أبوسفيان وزوجته أهل شرك، وعندما نادى النبى بأمان من يدخل بيته أو يدخل الكعبة، نصحه عمه العباس بأن يعطى أبا سفيان شيئًا، فنودى بأمان من يدخل بيت أبى سفيان أيضًا تكريمًا له كسيد لمكة.

وعندما جلس أبوسفيان إلى النبى ليسلم قال له، صلى الله عليه وسلم: اشهد أن لا إله إلا الله.. فشهد، ثم قال له: اشهد أن محمدًا رسول الله.. لحظتها تردد أبوسفيان وقال للنبى: إن فى النفس من هذه حاجة.. ومن المعلوم أن المكيين كانوا يؤمنون بالله: «ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله»، وكانوا يصفون البيت الحرام بـ«بيت الله»، ويسمون عبدالله، ومصدر شركهم تمثل فى عبادة الأصنام التى يتخذونها زُلفى وواسطة بينهم وبين الخالق.

أسلم أبوسفيان «إسلامًا سياسيًا»، مثله فى ذلك مثل زوجته هند، ويشير البعض إلى أن معاوية أسلم فى مكة قبل الفتح وكتم إسلامه، ويذهب آخرون غير هذا المذهب. وفى كل الأحوال يصح القول بأن سياقات إسلام الثلاثة «معاوية وأبى سفيان وهند» تؤشر إلى أنهم كانوا يملكون رؤية ونظرة محددة إلى الأمر، ملخصها أن محمد قد ظهر على العرب، وأنه لا بديل عن الاستسلام للموقف، لعل الله يُحدث بعد ذلك أمرًا.

ومؤكد أن «مُلك» محمد، صلى الله عليه وسلم- على حد وصف أبى سفيان- قد أعجبهم، وتمنوا لو تحول هذا المُلك إليهم ذات يوم.. ويروى ابن الأثير أن أبا سفيان لما رأى الجنود المصطفة حول محمد، صلى الله عليه وسلم، من كل اتجاه قال للعباس: «لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيمًا.. فقال العباس: ويحك إنها النبوة.. فقال أبوسفيان: نعم إذن».. فأبوسفيان لم يكترث لأمر النبوة قدر اكتراثه لأمر المُلك، وكأنه كان ينظر إلى التحقيق الذى أنجزه محمد على أنه يقع فقط فى سياق المُلك. 

فى كل الأحوال تمكن بنو أمية بالفعل من نشر الإسلام فى العديد من بلاد الأرض حتى وصلوا إلى إسبانيا، كما يذهب نجيب محفوظ فى رؤية تلتقى مع بعض الأفكار الشيعية التى ترى أن بنى أمية لعبوا سياسة واستخدموا مكرهم وحنكتهم- وليس إيمانهم- فى السيطرة على العرب فى البداية، ثم انطلقوا يسيطرون سيطرة سياسية على الدول الأخرى القريبة أو البعيدة عنهم طمعًا فى ثرواتها، تمامًا مثلما أخذ الإخوان يرددون مصطلحات «الاشتراكية الإسلامية» و«العدالة الاجتماعية» وشراكة الناس فى الماء والأرض والكلأ، كجزء من ولعهم بالتجارة السياسية، فخدموا بذلك أهداف أهل اليسار، مثلما جاء على لسان أحد أبطال رواية «السكرية» للمبدع «نجيب محفوظ».