رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماذا قالت شياطين الإنس عن الله؟

 

 

قرأت ذا يوم كلامًا غريبًا لشخص يُدعى الدكتور الشيخ مصطفى راشد، قال هذا الشخص المريب صاحب السحنة الغريبة: الله ذكر وليس أنثى، بدليل أنه تكلم عن نفسه فى القرآن بصيغة التذكير لا التأنيث!! فكان أن تتبعت هذا الكلام فوجدته منتشرًا فى مواقع الملحدين، يقولونه مدعين أن الله سبحانه ذكورى وضد المرأة لأنه ذكر! ويقولون إذا لم يكن ذكرًا فلماذا لم يصف نفسه بـ«هى» بدلًا من «هو» مما يدل على أنه منحاز!! ومن خلال هذا الجهل والغباء يشككون الشباب الصغير، الذى ليس لديه علم، أو الشباب الذى صُدِم فى الخرافات التى يروجها المتسلفون والمتأسلمون عن الإسلام، فيُخرِجون هؤلاء الشباب من الإيمان إلى الإلحاد، ولك أن تعلم أن غرائب المتسلفين والمتأسلمين قد تكون أشد خطرًا على الشباب من غرائب وتخرصات الملحدين.

وعندما أرسل لى بعض الشباب هذا الكلام لأبدى فيه رأيى فكرت فى البداية فى عدم الرد، ولكنى وجدت، وأنا أقرأ فى بعض المواقع الإلحادية، خطورة هذا الكلام فى زعزعة إيمان الشباب الصغير، خاصة أن الخطاب الدينى التقليدى يضع صورة تجسيدية لله رب العالمين، ويجعله شيئًا من الأشياء، مع أن الله سبحانه وتعالى قال عن نفسه «ليس كمثله شىء»، فيقول المتسلفون والمتأسلمون مثلًا إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فى وقت من أوقات، وكأن هذا النزول نزول بالجسد، والله لا يجوز تجسيده، ثم ينسب المتسلفون هذا القول للرسول، عليه الصلاة والسلام، فكان أن وقع كثيرٌ من الشباب فى حيرة، واستطاع الملحدون زعزعة إيمانهم.

ولهؤلاء الشباب ولكل من يقع تحت تأثير تلك الأباطيل أقول إننا يجب أن نعلم أن الله فوق الوصف، وهو لا يُتصور، هو الواحد الأحد، تعجز العقول عن تشبيهه، ليس كمثله شىء، لا يحتويه مكان ولا يمر عليه زمان، لا يخضع للتصور والتخيل والتجنيس والتثنية والتعديد، فوقيته فوقية مكانة لا مكان، هو واحد لأن ليس له آخر يساويه، وهو أحد ينقطع عنده الاستولاد، فلم يلد ولم يولد، لا نقول: ما نوعه؟ فخالق الأنواع لا يُنَوَّع، ليس له قَبل فهو الأول، والآخر، أزليته بلا ابتداء ولا انتهاء ولكن سرمدية لا تقبل التحديد والتأقيت، هو الذى جعل من كل شىء زوجين، الذكر والأنثى، السالب والموجب، هذه قوانين تسرى على المخلوق لا الخالق، لكن لماذا حاولت عقول البشر تجسيد الله؟

لأنهم فى العصور الأولى كانوا يحتاجون للتصوير والتجسيد والتمثيل والتشبيه ليفهموا ويعرفوا، فقد كانت المعانى المجردة تُستعصى على أفهام العقل البشرى فى طفولته، ولا يزال الإنسان إلى الآن يمارس بعضًا من طفولته العقلية فى مواجهة المعانى المجردة، فيحتاج إلى الصورة فى بعض الأحيان ليفهم ويُصدق، وقد كانت معجزات الأنبياء بمثابة صورة مُشخصة تُعجز أقوامهم، وكأن النبى يقول لهم: انظر، آمن.. هل رأيت ما قمتُ به الآن؟ وتعجز أنت عن مثله، وقد أتيتُه من خلال الله القوى، وطالما نظرت فلم يبق منك إلا أن تؤمن.

هذا العقل العاجز بطبيعته هو عقلٌ نسبى، لا يمكن أن يُحيط بكل شىء، أو يتصور كل شىء، حتى إن تصوراتنا تخضع لما حصَّلناه من علم، فمثلًا إذا كنّا فى القديم نعرف أن الكون ثلاثى الأبعاد: طول، عرض، ارتفاع، ثم عرفنا بعد ذلك أن هناك بُعدًا رابعًا هو الزمن، وأن الكون كله عبارة عن معادلة رياضية، ثم ظهرت نظرية «الأوتار الكونية» ومنها عرفنا أن الكون عبارة حركة وترية تروح وتغدو بشكل متواصل، لذلك قال علماء الفيزياء إن أوتار الكون تعزف سيمفونية موسيقية متناغمة لا نشاز فيها «ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوِّبى معه والطير» وإذا بنا نعرف أن أبعاد الكون ١١ بُعدًا، ثم يتطور العقل المعرفى للإنسان فيضع فرضيات أن للكون أبعادًا لا نهائية لا تخضع للتصور، فإذا كان هذا عن الكون الذى هو كتاب الله المنظور، فما بالك بالمُكَوِّن؟ ولكن عقول بعضنا لا تريد أن تُحيل «تصورها عن الله» للتقاعد، فلجأت إلى اللغة التى هى أداة من أدواتنا فى التواصل وتلقى المعرفة، لكى تجعلها وسيلتها فى تصور الله، واللغة كائن نسبى، يُنسب إلى كائن نسبى هو الإنسان، بمعنى أن الإنسان بالنسبة للغة مُطلق، فله أن يُغيرها ويضيف إليها ويحذف منها ويطورها ويجددها، وهذا هو الذى حدث بالفعل منذ أن تكلم الإنسان، ولعلنا نتذكر كلمة طه حسين عميد الأدب العربى حينما قال: «لغتنا العربية يسر لا عسر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه فى العصر الحديث»، وكل متطور نسبى، ونسبته تكون إلى من يطوره، ولذلك كانت لغة القرآن معجزة للعرب دون غيرهم، فهم أدركوا أن آيات القرآن بلسانهم ولكنها تُعجزهم، لماذا؟ لأن لغة القرآن متطورة عن لغتهم، وهم يعلمون أن اللغة تتطور عبر أجيال وليس من خلال شخص واحد، وفجأة، وهم لم يصلوا إلى هذا النظم القرآنى، ولم يصلوا فى تطويرهم للغة إلى ما سمعوه من القرآن، لذلك احتاروا فى تصنيفه بل عجزوا عن هذا التصنيف، والمهم هنا أن نعرف أن اللغة بالنسبة للإنسان نسبية، والإنسان بالنسبة للخالق نسبى، لذلك ضرب الله لنا الأمثال ليقرب المعانى إلى أذهاننا لا لكى يصورها لنا، واللغة تُعبر عن المخلوقات المرئية للإنسان، ولكنها لا يمكن أن تُعبِّر عن الغيبيات التى غيبت عنه، وكلما تطورت مرئياته وزادت، تطورت مفرداته اللغوية وزاد ما يستحدثه منها، ولكن اللغة لم تعرف غير نوعين من المخلوقات، الذكر والأنثى، لذلك استخدمت صيغة المذكر والمؤنث، هو، وهى، والعجيب أن معظم اللغات لا تعرف «المُثنى» فى حين أن اللغة العربية فيها المفرد والمثنى والجمع، ولَم تكن لغات العالم قبل ثلاثة آلاف عام تعرف الضمائر، هو وهى، بل كانت كلمة واحدة تعبر عن الأنثى والذكر، وتطورت اللغات فدخل فيها الضمائر، ولا تزال الضمائر مخفية فى بعض اللغات، ونجدها منقوصة فى لغات أخرى، وعندما يُنَزِّل الله قرآنًا، أو توراة، أو إنجيلا، أو زبورا، أو صُحفًا، فإنما يُنزله بلغة الناس ليفهموه «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» و«فإنما يسرناه بلسانك»، ولكى لا تظل قاعدة التأنيث والتذكير هى القاعدة المضطردة، لذلك جاء القرآن بلسان يكسر هذا الاضطراد، فكلمة «عجوز» ليس فيها تاء التأنيث لذلك فهى تقال للمذكر، ولكن القرآن جعل تلك الكلمة تقال للذكر والأنثى «قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز» وقوله «إلا عجوزا فى الغابرين» وغيرهما، وكلمة زوج تقال للمذكر والمؤنث فالله قال «وأصلحنا له زوجه» ورغم أن كلمة رحمة تؤنث لأن فيها تاء التأنيث إلا أن الله قال «إن رحمت الله قريبٌ من المحسنين» ولَم يقل قريبة.

وسنجد مثل هذا كثيرًا، ولكن لماذا التذكير له أولوية فى لسان العرب لدرجة أن يتم تذكير المؤنث فى بعض الأحيان، مثل: حامل، حنون، ناشز، طالق، حائض، وغير ذلك؟ لأن التذكير هو الأصل فى لسان العرب، والتأنيث تابع وليس أصلًا، والعرب لا يؤنثون إلا خوفًا من الالتباس، لذلك جاء فى القرآن لفظ الجلالة بالتذكير ليعرف أهل هذا اللسان أن الله هو الأصل، لا ليعرفوا أنه مذكر، أى أنتم تقولون يا أهل هذا اللسان إن المذكر هو الأصل، فاعلموا إذن أن الله هو الأصل، ولذلك فَهِمَ العرب كلمة «الحمد» وأنها تختلف عن «الشكر» لأن «الحـ» من الحياة، و «مد» من العطاء المتواصل، فهو الحى الذى أمدنا بالحياة، ولَم يُمده غيره بحياة لأنه هو الأصل، هو الأول والآخر بسرمدية، وكل خلقه منه هو لا من غيره، لذلك كان الله هو المتفرد بالإفراد دون خلقه .

ولكن الملحدين يقولون: جاء فى القرآن أن الله قال «ما اتخذ صاحبة ولا ولدا» وطالما أنه قال ما اتخذ صاحبة ولا ولدا فيكون الله ذكرًا!! ولهؤلاء أقول إن هذا القول القرآنى جاء فى سورة الجن فى محاورة بين جن استمع للقرآن فأسلم وآخر ظل على شركيته، ولكن الجن المسلم يرد على المشركين الذين صنعوا صنمًا وأطلقوا عليه «اللات» وهو اسم تأنيث للفظ الجلالة «الله»، وقالوا عن اللات إنه صنم لزوجة الله، ومناة والعزى ابنتاه، فقال الجن المسلم: ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، لينفى عن اللات والعزى ومناة صفة الألوهية، لا ليثبت لله صفة الذكورية.

ولعلك لا حظت فى سردى عن صنم اللات، وهو صنم لأنثى، أننى قلت «صنم» ولَم أقل «صنمة» لأن الأصل فى لسان العرب التذكير لا التأنيث.