رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرية لا تتعارض مع الفضيلة

يظن البعض أن الحرية تحرر من القواعد والفضائل والقيم، بل علي العكس الحرية هي متعادلة مع الفضيلة ولا تتناقض معها من قريب أو بعيد، فالحرية ليست انفلاتا والحرية نعمة إلهية، أما عكس الحرية العبودية والإذلال والانفلات سواء بقول لا يليق أو بفعل بغيض يؤذي لا يبرئ، يحط من فاعل العيوب ويعزله عن مجتمع نظيف الأفكار حلو المعشر مريح لسامعيه، يصدق في القول ويعدل في الحق لا يعرف الخداع بكل أنواعه ولا الشر أو الكراهية، صادق القول، نعم هي نعم لعلها مشتقة من النعيم والنعم، حتى أن صيغة الاعتراف تأتي علي النحو التالي "أقول الحق ولا شيء غير الحق"، بخلاف من يعوج المستقيم فينطق بما هو ظاهر علي أنه الحق ولكنه باطل في واقعه، كمن يسأل ابنًا عن أبيه: 
- هل والدك بالبيت؟  فيكون رد الابن علي السؤال بأن أبيه في مدينة "كذا"، ويكون الأب قد كتب مسبقًا على باب حجرة من حجرات البيت اسم إحدي المدن الأخرى، أي مدينة "كذا"، وعند السؤال عنه يدخل الأب المطلوب في الحجرة المكتوب علي بابها اسم تلك المدينة، وهنا يتحول الصدق إلي كذب، ويقاس علي مثل هذه الألفاظ كمن يسأل عما إذا كان عنده مبلغ من المال لهدف معين، فيكون الرد ليس في الجيب إلا مبلغ متدنٍ، وكل ما عنده في الحقيقة هو في حقيبة وليس في حافظة نقوده أو في جيبه.
وهكذا دواليك فيما ظاهره الصدق وباطنه الكذب، وتتعدد العبارات والأمثلة والبعد عن الحقيقة، لهذا يطلب من الواقع تحت التحقيق في بداية استجوابه أو في بداية الاعتراف بأن يقول الحق كل الحق ولا يقول شيئًا غير الحق، ومع ذلك فقد يحاول بعض المحقق معهم أن يُقسِم بعبارة “أقول الحق كل الحق ولا أقول إلا الحق”. ومع ذلك فقد يقسم المتهم وهو يعلم أن قسمه ليس صحيحًا، وفي غالب الأحوال يعاقب المتهم علي جريمة الكذب بجانب العقوبة على الفعل الذي حاول إنكاره، لأنه أقر قبل التحقيق أن يقول الحق كل الحق ولا شيء غير الحق، فلا يصح أن يجيب الابن عن سؤاله "أين والدك؟"، فيقول إنه في أسيوط لأن علي حجرته علق لافتة كُتِبَ عليها "أسيوط".
وهكذا تتكرر الصور لإخفاء الحق، ومن الأمور المضحكة لكنها مؤسفة عندما سؤل عن إمكانية استعارة حماره لقضاء أمر فكان رد صاحب الحمار أن حماره مع ابنه في مهمة، وصدق الجار جاره وقبل أن ينصرف السائل سمع نهيق الحمار فعاتب الصديق صديقه لإنكاره وجود الحمار، فكان رد صاحب الحمار لصديقه "وهل تكذب صديقك وتصدق الحمار؟"، نعم هي فكاهة ولكنها صورة من صور الخداع والقول الباطل، والدول المتقدمة تعاقب على الكذب بخلاف عقوبة المخالفة.
كما في حالة الأستاذ الجامعي في الولايات المتحدة، والذي سُئل عن سفره إلي الصين التي بدأ منها انطلاق الميكروب، فأنكر ذهابه إلي الصين في الأصل لأنه كان يسافر في عطلاته من جامعته ظنًا منه أنه لا يعرف بتحركاته أي إنسان آخر، حيث كان مواظبًا في الجامعة التي يعمل بها ولا يذهب إلى الصين إلا في عطلته، وكان مكسبه بالغ القدر خلاف دخله من جامعته، ولم يدرك هذا الجامعي أن كاميرات المطارات، وإن كان يغيرها في كل مرة، إلا أن الكاميرات متوفرة في كل مطارات العالم، بل وحتي في الشوارع، وهنا واجهه المحقق بتهمة الكذب وصدر الحكم عليه بالسجن، وها نحن نرى الغمة الحاصلة وراء انتشار الوباء الذي راح ضحيته قرابة الثلاثة ملايين من البشر في كل أركان المعمورة.
والقياس علي هذه الواقعة لا ينتهي ويبقي السؤال لو كانت الصين حاصرت الوباء علي أرضها وركزت علي محاولة القضاء عليه قبل الانتشار لأنقذت الملايين من الموت ومن المرض الذي لا يزال يمتد وينتشر مع مطلع كل صباح مهما بعدت المسافات، وحاصره الأطباء واستخدمت مواد الحماية وغطاء الوجوه، فسرعة الانتشار هي كالنار في الهشيم، ومع أن ذلك العالِم قد نال الجزاء بالسجن وقد تكون مدة سجنه قد انتهت أو كادت، إلا أن فعلته وضحاياه لا تزال كائنة في كل ركن في العالم لم يستثني منه بلد سواء كان غنيًا او كان فقيرًا متقدمًا أو لا، الكل يئن من جراء هذا الوباء.
ومع قساوة الجرم ونتائجه هل يتعلم العالم كله هذا الدرس الذي زلزل العالم حتي لا يتكرر مثل هذا الفعل؟ أتمني أن يعي العالم الدرس حتي لا تتكرر الحروب والعداءات ويتفرغ الكل وفي المقدمة العلماء، حتي لا نفكر إلا فيما ينفع الأمم ويزيل كل غمة وكفانا حروبًا وخرابًا، جوعًا وعطشًا، ولا يتحقق هذا الحلم إلا بالرجوع إلي الله خالقنا، فمن عرف الله وخضع لطاعته لا يفكر في الشر والعداء، بل بالجهد في العمل والصدق في الحق، مدركين أن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا، فمن زرع شوكًا لا يحصد إلا الشوك، ومن زرع خيرًا يحصد الخير، فلعل فيروس كورونا يقود عالمنا إلي ما فيه خير البشر بعيدًا عن غرس الضرر.

  • الرئيس الشرفي للطائفة الإنجيلية