رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أكذوبة كتابة الأحاديث فى عهد النبى

لن أكرر ما سبق وأن كتبته لكم، ولكننى فقط أريد أن أجعل المقالات موصولة تنتظمها فكرة واحدة، لذلك بين الحين والحين ستجدنى أجمع لك بعض الأفكار السابقة وأضعها لك فى باقة واحدة، ثم نَصِل الجديد بها، أما منهجنا فأنت تعلمه، نسعى معًا للوصول إلى منهج مُحكم للتفرقة بين الحديث الموضوع والحديث الصحيح، بحيث لا تكون هناك أى تسميات أخرى «تتمحك فى الحديث» كأن يقول البعض هذا حديث ضعيف يؤخذ به فى صالح الأعمال أو مثل ذلك، فالحديث الذى ننسبه إلى النبى يجب أن يكون صحيحًا بلا مواربة، ثم نبحث بعد ذلك فى معناه والمقصود منه وحجيته التشريعية، وفى منهجنا يجب أن يكون المتن فى الحديث هو الأصل، والسند هو الوسيلة، ونحن لا يمكن أبدًا يا صديقى أن نرفع قدر الوسيلة، ونغمط حق المتن، فإذا صح السند وفسد المتن فلا حبذا به من سند.

ثم إننا اتفقنا يا صديقى على أن نسير معًا خطوة خطوة، لا نتعسف فى الفهم، ولا نتعجل للوصول إلى نتيجة ليست لها مقدمات تؤدى إليها، لأن بعض الناس يا صديقى العزيز، وأحسبهم كثيرًا، يضعون النتيجة أولًا، ثم يجهدون أنفسهم للبحث عن مقدمات تتناسب مع نتيجتهم! فإن لم يجدوا لفقوا مقدمات! وحين انتهى بعضهم إلى نتيجة مؤداها أن الأحاديث النبوية كُتبت فى عهد النبوة، قلنا لهم أشياء كثيرة منها إن قواعد الإثبات الأصولية تقول: «البينة على من ادعى» فما هى البينة التى معكم؟ قالوا إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، بعد أن منع كتابة الحديث عاد وسمح بها، إذ جاء فى حديث لأبى هريرة أنه- أى أباهريرة- كان يحفظ الأحاديث فى حين أن عبدالله بن عمرو كان يكتبها، وأن عبدالله بن عباس كان يحمل ألواحه التى كتب فيها الأحاديث فوق جمل، فيكاد الجمل ينخ من ثقل هذه الألواح.

يا رجل، أهذه تُرضى ضميرك! هذه ليست بينة يا مولانا!! فالبينة فى مثل هذا الموضع يجب أن تكون تشريعية من نفس الذى أصدر تشريع منع كتابة الحديث، وذلك على غرار «كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها»، وخذ بالك أننى أستخدم أدواتك فى الحوار ولا أستخدم أدواتى، فأنت الذى قلت لى إن الرسول، صلوات الله عليه، قال: «من كتب عنى غير القرآن فليمحه»، إذن يجب أن تكون بينة سماح الرسول بالكتابة مرة أخرى قاطعة ومن نفس الآمر، كأن يقول مثلًا: «كنت قد نهيتكم عن كتابة الحديث ألا فاكتبوه»، إما أن تكون «بينتك» هى أن فلان كتب، أو علَّان كان يحفظ، لا يا عم الشيخ، هذه لا تصلح فى شىء أبدًا، وحتى يكون المثل قريبًا إلى ذهنك، فخذ عندك ما يحدث فى واقعنا الحالى، يأتى مثلًا المشرع البرلمانى الذى يصدر القوانين ويقول: لا يجوز أن تضع يدك على أرض مملوكة للدولة، فيخرج أحدهم بعد مدة صائحًا وهو يكاد يطير من الفرح: الحمد لله سمح المشرع البرلمانى أخيرًا بأن نضع أيدينا على أراضيها، فنقول له: بُشراك يا رجل، أين القانون الذى سمح بذلك، فيتنحنح قائلًا: ليس هناك قانون ولكن رجل الأعمال الفلانى، وزيد وعبيد وضعوا أياديهم على أرضٍ مملوكة للدولة! فهل هناك دليل أكبر من ذلك؟!

أنا لن أرد ولكن: «رد انت يا حسين»! غاية ما سأقوله: آمنتُ بأنه عليه الصلاة والسلام سمح بالكتابة، فأين مخطوطات الحديث التى كتبها الصحابة؟ القرآن مثلًا وصل إلينا كتابة من عهد الرسول، صلوات الله عليه، وما حدث فى عهد الصحابة هو تجميع الصحف التى كتبوا فيها القرآن فى دفة كتاب واحد، فأين ما وصل إلينا من أحاديث مكتوبة؟، لا شىء، أنا لا أرى إلا أن الواحد منكم كـ«حاطب ليل» لا يبصر ما يجمع فى حبله من ردىء وجيد، وإذ كنا قد تحدثنا من قبل فى هذا الأمر وحسمنا هذه المسألة، وانتهينا لأمر قاطع هو أن الأحاديث وصلت لنا بالرواية وليست بالكتابة، فما هى طرق النقل بالرواية وحجيتها؟

المستقر عليه عند علماء الحديث أن معظم الحديث الذى وصل إلينا «لم يأت على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه» أى لم يكن نقله نصيًا، ولكن بالمعنى، أما النقل باللفظ فقد كان نادرًا، فهكذا قال سيدنا أبوسعيد الخدرى: «كنا نجلس إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، عسى أن نكون عشرة نفر نسمع الحديث فما منا اثنان يؤديانه غير أن المعنى واحد»! ولعلنى يا صديقى أكاد أرى الدهشة التى ارتسمت على وجه سيدنا التابعى «عامر بن شراحيل الشعبى» وهو يُحدث سيدنا عبدالله بن عباس قائلًا: إنك تحدثنا بالحديث اليوم، فإذا كان من الغد قلبته أى غيّرته! يقصد أن ابن عباس يقول الحديث اليوم ثم يرويه غدًا بصيغة مختلفة، فامتعض ابن عباس وقال وهو غضبان: «أما ترضون أن نحفظ لكم معانى الحديث، حتى تسألونا عن سياقها»! وليت الأمر اقتصر على واحد أو اثنين من الصحابة يروون الحديث بالمعنى ولكن معظمهم فعل هذا، كما أنهم ليسوا وحدهم من نقل الأحاديث عن النبى بالمعنى، ولكن التابعين أيضًا حين نقلوا من الصحابة نقلوا بالمعنى، فالناقل عن النبى نقل بالمعنى، والناقل عن الناقل نقل بالمعنى، وهكذا أجيال وراء أجيال حتى تم تدوين الأحاديث فى كتب، واسمع ما قاله ابن عون من أنه «كان الحسن البصرى والنخعى والشعبى يحدثون بالحديث مرة هكذا ومرة هكذا»، ولك أن تعلم أنه ما من كتاب من كتب الحديث جاءت أحاديثه بنفس نطق النبى، عليه الصلاة والسلام، إن هو- كما يقول علماء الحديث- إلا معانٍ مما فهمه الرواة، وما تعبير الصحيح هذا إلا دلالة على أنه صح عند الراوى، لا أنه صح على الإطلاق، لأن ما صح عند أحدهم قد لا يصح عند آخرين.

ومن المقطوع به أيضًا أن كثيرًا من الصحابة كان يحدث عن النبى دون أن يكون قد سمع منه! ولكنه يكون قد سمع الحديث من صحابى آخر فيروى هو الحديث دون أن يسنده للصحابى الآخر، واسمع معى فى ذلك ما قاله الصحابى البراء بن عازب «ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابنا ببعضه»، وأظنك فهمت الآن لماذا يرد الحديث الواحد فى البخارى بأكثر من لفظ، ثم فى مسلم بألفاظ أخرى، ويتغير نصف الحديث ذاته مع أحمد أو مالك والترمذى والنسائى وغيرهم.

ولكن تقابلنا هنا بعض الصعوبات منها ما قلناه فى مقالة سابقة من أن «نفسية الإنسان تضيف مما رسخ فيها إلى ما تتلقاه من روايات» ولكن سيقول لى أحدهم: لأمانة البحث العلمى يجب أن تثبت أن هذا حدث للصحابة، أضافوا من عندهم إلى ما سمعوه من النبى.

يا صديقى المسألة بسيطة ويعلمها كل علماء الحديث، فالبخارى أثبت هذا الأمر فى كتابه، ففى باب الجنائز أن سيدنا عمر بن الخطاب قال لصهيب: «أو لم تسمع أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» فبلغ هذا الحديث أمنا عائشة، رضى الله عنها، فقالت: رحم الله أبا عبدالرحمن، سمع شيئًا فلم يحفظه، ثم قرأت (ولا تزر وازرة وزر أخرى)».

وخذ مثلًا آخرًا، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، حدَّث الصحابة عن الإسراء والمعراج التى وصل فيها النبى إلى سدرة المنتهى، والصحابة سمعوا حديث الإسراء والمعراج من النبى، ومع ذلك اختلف رواة الأحاديث عن الفترة التى حدثت فيها تلك الحادثة الكبرى حتى وصلت الاختلافات إلى أكثر من اثنى عشر اختلافًا، فالبعض قال: إنها حدثت قبل الهجرة بعام، وآخر قال: لا بل قبل الهجرة بعامين، وثالث: إنها حدثت قبل الهجرة بثلاث سنوات، أو قبل الهجرة بخمس سنوات، واختلفوا عن الشهر الذى حدثت فيه تلك الحادثة، ووصلت اختلافاتهم إلى ستة أشهر مختلفة، واختلفوا فى متن الأحاديث والقصص المروية حتى أنك لا تستطيع أن تقف عند قول واحد إلا من باب التقريب لا من باب اليقين، ولو أردت أن أحصر لك اختلافات الصحابة فى رواية الحديث، حتى أن بعضهم كذّب بعض، ما وسعنى كتاب، ولكن فلنتوقف اليوم ولنستكمل فى المقال القادم.