رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تاريخ لن ننساه

في مطلع الثمانينيات، عندما بدأ شباب الجماعات الإسلامية في الظهور باللحى والجلباب الأبيض القصير، وتحته سروال، وانتشروا وسط الناس، وشتموا الدولة والحكومة علنًا، ولعنوا الرئيس الذي تكاسل عن تطبيق الشريعة الإسلامية، نظر الناس إليهم بانبهار، وهم يستعيدون شباب الاتحاد القومي وشباب منظمة الشباب الاشتراكي الذين مارسوا نفس الدور باتجاه مختلف. 

قبلها كان السادات منتشيًا بنصر أكتوبر ودعم السعودية، وأخبره شيخ الأزهر وقتها، الشيخ عبدالحليم محمود، أنه شاهد جنودًا تقاتل مع الجندي المصري في سيناء. وكأنه لم يشاهد بطولات المصريين الذين حققوا النصر، واقتنع السادات بأنه الرئيس المؤمن، وعاهد شيخ الأزهر على تطبيق الشريعة، وعندما تأخر الرئيس في التطبيق قاطعه الشيخ عبدالحليم محمود. في الحقيقة، لم يكن السادات بعد أن تخلص من خصومه في حاجة إلى دعم، فقد أصبح قويًا بما يكفي، ولكن الإخوان الذين أعادهم من السعودية، أحاطوا به في ميت أبوالكوم، حيث بتعامل معهم بأريحية بعيدة عن تقاليد البروتوكول والمنصب الرسمي، وذكروه بوعوده بتطبيق الشريعة، وأخبروه أن الشيوعيين متربصون ويساندهم الناصريون. مما جعله يوقن بأنهم لن يتركوه. وساعدته مظاهرات الجياع في يناير 1977 على تكوين عقيدة أن الناصريين والشيوعيين يتربصون. فشرع في تكوين تلك الجماعات بالتعاون مع عثمان احمد عثمان وعمر التلمساني ومحمد عثمان إسماعيل.

وبدأ الشيوخ الجدد يبشرون الناس بدين جديد، لم يألفه المصريون، أخرجوه من بطون كتب ابن تيمية والمودودي وسيد قطب ومبادئ الوهابية في المملكة العربية السعودية. وسادت دولة الشيوخ وظهرت بوادر تقنين مواد القانون لتصبح مطابقة للشريعة الإسلامية، وتطوع بعض جهابذة القانون من رجال الإخوان بتقديم نسخًا جاهزة من القانون الإسلامي لكل القوانين الوضعية.

وأعطى السادات الحرية لرجال الإخوان أصدقاءه، لعمل المعسكرات الشبابية الصيفية، وأنفقوا عليها من أموال الدولة، ساهمت تلك المعسكرات في زيادة جيوش الله في مصر، فمنعوا تحية العلم المصري في المدارس، وحرموا الموسيقي والغناء، ومنعوا الناس من زيارة المقابر، وهدموا أضرحة الأولياء، ومنعوا الشباب من الجلوس بجوار الفتيات في مدرجات الجامعة. وغطوا رؤوس النسوة في الشوارع وأماكن العمل والمدارس. وكفروا المشايخ الكبار، وأطلقوا عليهم أوصافًا جديدة، شيوخ السلطان، ومشايخ التليفزيون.

كان المصريون يرون أنها مقدمات لنظام جديد وغامض بدأ يتشكل وتدعمه دول الخليج، وراقبوهم في صمت، وقاموا بضربتهم الكبرى بقتل السادات وسط جيشه في عيد النصر، وذبحوا أكثر 100 جندي وضابط في أسيوط بعد يومين، في 8 أكتوبر 1981 في عيد الأضحى.

وقتها، كل ما فعلته ثقافة المجتمع الرسمية أنها وصفتهم بالإرهابيين. ومن آن لآخر كانت تندد بتصرفاتهم في أجهزة إعلامها دون خطوة عملية واحدة.

وفي ظلال الحكام الجدد ظهر اقتصاديون جدد، يرتدون نفس ملابس الحكام الجدد، ولهم ذات اللحى، وظهر شيوخ أفتوا بتحريم التعامل بنوك الدولة، وبشروا الناس باقتصاد آخر خالي من الربا.

وعندما فطنت الدولة كانت البنوك قد أخليت تمامًا من العملات والعملاء، ودخل المودعون الذين أودعوا أموالهم في شركات التوظيف، في مسلسل لم تنته حلقاته حتى اليوم، والغريب أنه بعد سبعة وعشرين عامًا استقبلت مصر بعضهم يوم 8 مايو 2021 بعد أن خربوا بيوت المودعين.

وقتها تركت الدولة رجال الشرطة وحدهم بأسلحتهم وتدريبهم المتواضع، دون تغطية فكرية وإعلامية وسياسية. كانت أساليب الشرطة المستخدمة لمقاومة الإرهاب لا تصلح، وقتلت الجماعات الإسلامية المخبرين والضباط والجنود والمرشدين، وقتلوا المفكرين والمثقفين والسياح ومنعوهم من الحضور لمصر.

وظهرت مصر أمامهم هؤلاء الدعاة الجدد، وكأنها خالية من العلماء والمفكرين والمثقفين والراديكاليين والوطنيين والمخلصين لها. 

وبدأت الدولة في محاربة الإرهاب بثقافة الضجيج الإعلامي. 

وحاول ضابط أن ينبه المسئولين إلى خطورة الموقف. فكتب روايته "يوميات ضابط في الأرياف" شرح فيها بطريق غير مباشر كل شيء، لافتًا نظر الدولة إلي خطورة ما تفعله الشرطة في الصعيد، وقال الضابط في روايته إن هناك نوعًا من التعاطف الشعبي مع الجماعات بدأ يلوح في الأفق، وأنه أثناء المعركة مع الإرهاب ارتكبت الشرطة أخطاء بالغة القسوة، تحملها الناس بصبر وألم.

ولكن الحكومة التي كانت تعاني من الإرهاب وسوء البصيرة، قدمت الضابط للمحاكمة. وعصفت بمستقبله الوظيفي. وتعامل الناس مع الظاهرة الجديدة ببساطة وتلقائية، وأطاعت الثوار الجدد حتى الآن، فمازال الاختلاط ممنوعا في مدرجات الجامع والتعليم الحكومي، وخصصت عربات للسيدات في بعض وسائل المواصلات. وأجبروا الدولة علي ضم المساجد وصيانتها، كما أجبروها على الاهتمام بالدعاة وشئونهم وتثقيفهم والنهوض بهم. وتميزوا عن باقي فئات الموظفين.

كانت الظاهرة تنمو تحت بصر الدولة التي تحولت من حمل وديع إلى وحش كاسر.

وظهرت في مصر صحافة جريئة ترصد وتحلل وتتكلم بصوت عال دون خوف، وحدها كانت صحيفة روزاليوسف بشبابها الصحفيين، أول من تصدت لتلك الموجة العاتية في نهاية التسعينيات. 

وفي اللحظة التي تكاتف فيها العالم لمكافحة الإرهاب بعد 11 سبتمبر 2001 عرف بعض أفراد الجماعات الدين الصحيح، وتابوا. ثم غسلوا أيديهم من دماء المصريين، وطلبوا بالانخراط في العمل السياسي ليكملوا هدفهم بالوصول الي الحكم عن طريق آخر، كما أفتي لهم شيوخهم. 

وهي مرحلة سنتحدث عنها لاحقًا.