رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشرير الأكبر.. العُقد النفسية التى خلقت من سيد قطب كائنًا مشوهًا

سيد قطب
سيد قطب

لا يزال الحديث عن سيد قطب «منطقة بكر» للباحثين والمهتمين بشئون الحركات الإسلامية، وليس فى هذا أى «تزيد» على الإطلاق، لأن الحديث والكتابة هنا عن رجل يحرك الأرض وهو فى قبره، وليس فى هذا أى «مبالغة» أيضًا، فكل «الذقون الملعونة» التى تعيث فى الأرض فسادًا تستقى أفكارها من كتابات سيد قطب، وكل من يحملون السلاح ليقتلوا ويدمروا يستندون إلى آراء سيد قطب.. هذه هى الحقيقة المجردة.

من هنا تأتى أهمية هذه المحاولة لفهم «عالم سيد قطب».. سيد قطب الملحد الجامح، والماسونى الكبير، والأديب الفاشل، والإرهابى العتيد.. وهى محاولة تأخذنا إليها الكاتبة رضوى الأسود، فى كتاب جديد تعتزم إصداره قريبًا، ونبدأ هنا فى «الدستور» نشره فى حلقات متتالية، لأهمية الموضوع والشخصية، ولأن رضوى الأسود لديها دائمًا ما تقوله ويكون جديدًا.

بدأ سيد قطب مشواره فى الشعر، بل مشوار الكتابة والنشر، بكتاب نقدى خاص بالشعر، عنوانه «مهمة الشاعر فى الحياة وشعر الجيل الحاضر»، وكان ذلك عام ١٩٣٣، ثم فى يناير عام ١٩٣٥ نشر ديوانه الأول «الشاطئ المجهول»، وقد صدرت طبعته الأولى عن مطبعة «صادق» فى المنيا.. وجدير بالذكر أن أشعار سيد قطب كانت تُدَرَّس فى المدارس للطلبة حتى بعد عام ١٩٥٤. 

ترك لنا سيد قطب ما مجموعه مائة وأربعين قصيدة تم طمسها عن عمد وتناسيها، كما قلنا، من قِبَل مريديه وحوارييه من بعده، ليظل الراسخ فى ذهن العامة، ومن المعلوم بالضرورة، أنه الكاتب الإسلامى، والشهيد الحى، والمفكر العتيد، والعضو السابق فى مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، والرئيس السابق لقسم نشر الدعوة فى الجماعة، وليظل هو صاحب أهم كتابين فى تاريخ الجماعة: «فى ظلال القرآن»، و«معالم فى الطريق» الذى يُعَد دستورها هى وكل ما تناسل من تحت عباءتها من جماعات إسلامية وجهادية وتكفيرية. وهو ما سَيّرها سابقًا، وحاليًا، وإلى مدى غير معلوم. 

يقول الشاعر أحمد الشهاوى إن شعر قطب «أشبه بالنَظم الذهنى كنتاج أستاذه عباس محمود العقاد»، الذى يراه أيضًا لا يُصنَّف كشاعر. (هامش: مقال بعنوان «سيد قطب شاعر الغزل» فى جريدة «المصرى اليوم» بتاريخ ١٨ أكتوبر ٢٠١٤).

وهنا سوف نقطع السياق للحديث عن علاقته بالعقاد، فلا يمكن بأى حال من الأحوال الحديث عن الشعر فى حياة سيد قطب دون الإشارة إلى ملابسات تلك العلاقة، بل إن الحديث عنها سيكشف بوضوح شديد عن شخصية قطب وتركيبته من خلال الأحكام المبالِغة، والتعصب الأعمى، والغلو فى الرأى، مما يضعنا أمام ناقد ذاتى، غير موضوعى، بل غير متزن نفسيًا. 

حينما أطلق طه حسين على العقاد لقب «أمير الشعراء» بعد وفاة شوقى، راح سيد قطب يعلن على صفحات المجلات أن شوقى لم يكن مستحقًا لهذا اللقب لأنه لائق فقط بالعقاد نظرًا لأن «المسافة بينه وبين شعراء العربية فى هذا العصر أوسع مما بين السوقة والأمراء» بل إنه «أشعر شاعر فى لغة العرب فى القديم والحديث»، وإنه «لا يدانيه فى شعره شعراء العالم أجمع»، وإنه قد همّ بإصدار بحث عن الشعراء المعاصرين، فنظر فى أدب جميع الشعراء الأحياء، لكن عاقه عن إصداره أنه لم يجد نقاط اتصال بين العقاد وبين جميع الآخرين من الشعراء لأن الفرق هائل جدًا!

وقد خاض سيد قطب معارك أدبية دفاعًا عن أستاذه العقاد، بيّن فيها نواحى عبقريته على صفحات مجلة الرسالة، بدأت من شهر أبريل وحتى شهر نوفمبر من العام ١٩٣٨، وتحديدًا من العدد ٢٥١ وحتى العدد ٢٨٠، بل راح سيد قطب يرقُب كُتب أستاذه العقاد، فما أن يصدر كتاب منها حتى يتناوله بالشرح والتحليل والنقد، ويجعل من حديثه عن الكتاب مناسبة للحديث عن نبوغ وعبقرية صاحبه.

وتمر السنوات، لينقلب التلميذ على المعلم خالعًا عنه أستاذيته وتفرده، ولا نعلم السبب الحقيقى وراء ذلك، فهل كان بسبب هجوم الشعراء والنقاد عليه بسبب تحيُّزه للعقاد دون غيره، مما يكون قد أضر به شخصيًا؟ أم لأنه، حسب الرأى الشائع، رفض كتابة مقدمة لكتابه «التصوير الفنى فى القرآن»؟ أم أنه كان انتقامًا من العقاد ذاته الذى، حسب أحمد الشهاوى، لم يعره انتباهًا حينما أصدر قطب ديوانه «الشاطئ المجهول»، و«لم يلتفت إلى ما كتب تلميذه، وهو ما جعل سيد قطب يغادر موقع التلمذة، بل ويترك الشعر والأدب لأهله المُخلصين، ويذهب نحو ما ذهب إليه من الانخراط فى الإخوان المسلمين وتأليف الكتب الدينية، وهو تحول نفسى عميق، إذ رأى نفسه منبوذًا فى الحركة الأدبية بسبب موقف العقاد من شعره»؟ (هامش: مقال بعنوان «سيد قطب شاعر الغزل» فى جريدة «المصرى اليوم» بتاريخ ١٨ أكتوبر ٢٠١٤).

بيد أن الرأى الثالث الذى تبنَّاه الشاعر أحمد الشهاوى مردود عليه، لأن ديوان سيد قطب صدر عام ١٩٣٥، ودفاعه وتبنيه لمدرسة العقاد ظل ممتدًا حتى عام ١٩٤٦، مما يجعلنا نميل لصحة الرأى الثانى، بما أن كتاب «التصوير الفنىّ فى القرآن» صدر عام ١٩٤٥.

على أى حال، بدأ قطب يبتعد تدريجيًا عن تلك المدرسة، حتى إنه قال عنها:

«وقامت على أساس أن الشعر صورة حياة، وخلجات نفوس، وسمات شخصيات، وحقائق شعور، وهذا كله صحيح، ولكن هذه المدرسة عند التطبيق العملى لفهمها الشعر كانت طاقتها الشعرية أقل من تصورها للشعر، فجاء نتاجها الشعرى فى عمومه، ناقص الحرارة، غير مكتمل الشعرية».

وفى موضع آخر يقول:

«لم أجد نفسى إلا منذ عامين (١٩٤٦) أنتبه إلى الفارق الأصيل بين الفكرة الجميلة والشعور الجميل، وأجد للشعر مذاقًا آخر غير ما سبق لى أن أحسسته فى نحو خمسة عشر عامًا أو يزيد»!

ونعود إلى الشاعر أحمد الشهاوى الذى يقول عن سيد قطب، فى نفس المصدر السابق، إن أشعار سيد قطب «رومانسية، تدور حول الغزل، والحب، والشكوى، والحنين، كاتجاه وموضوع، فمن عناوين قصائده مثلًا: قُبلة، صدى قُبلة، قُبلة للتجربة، غزل ومناجاة، هى أنت، أحبُّك، لماذا أحبُّك، الغيرة، مصرع حب، الحنين والدموع، رقية الحب، عصمة الحب، على أطلال الحب، مرض الحبيب، طيف الحبيب، شكوى وحنين، فداؤك نفسى، هدأت يا قلب، قصة قلبين، عينان، حدِّثينى، خصام، صوتها، بيانو وقلب، ريحانتى الأولى أو الحرمان، ماذا عليك، انتهينا، جمال حزين... إلخ». 

كما قال إن هناك من الإخوان من عمد إتلاف معظم شعره وحرقه، وإن الديوان ظل قرابة ثمانين عامًا منسيًا، لم يطبع ثانية. ويقول إن زملاءه من خريجى دار العلوم يقولون إن شعره من شعر الصِبا «ليداروا بهذا التحجج ضِعف شعره»، وإنه كتبه فى سن التاسعة والعشرين، فعن أى صِبا يتحدثون؟! «ناسين أن شعراء مصر والعرب المهمين والأساسيين كانوا قد قدَّموا تجاربهم الشعرية المهمة والخاصة وهم فى هذه السن، أو دونها». 

ثم يسوق شهادة عبداللطيف عبدالحليم، وهو أستاذ فى دار العلوم وينظم الشعر، فيقول إن سيد قطب «استولى على ناصية النَظْم والصناعة»، ولم يقل لنا الشعر والتجربة، إذ شتان بين الفعلين «كَتَبَ» ونَظَمَ»، وبين «أبدع» و«ألّف»، وبين «التجربة» و«الصناعة».

«لم يأت سيد قطب فى كل شعره بجديد، لقد كان رجلًا محافظًا تقليديًا، مقلدًا لمن سبقوه، خصوصًا العقاد. ابتعد عن الجِدة، ولم يُضِف إلى مدونة الشعر ما يمكن أن يحفظه له التاريخ، إذ سلك الدروب الممهدة والسبل المحروثة والصفحات المطروقة سلفًا، كان وجدانيًا فيما كتب، ولكن من يقرأ شعره بتأنٍ، فلن تمسك يدًا روحه جديدًا من الشعر» (هامش: نفس المصدر السابق). ثم فى آخر فقرة فى المقال يصف شعر سيد قطب بالجفاف والذهنية.

لم ير الشاعر محمود حسن إسماعيل فى ديوان سيد قطب «الشاطئ المجهول» إلا قصيدة واحدة توقف أمامها، وقال بالحرف الواحد عن شعر سيد قطب إنه «محاولات طيبة.. أقول محاولات، وقد يغضب صديقنا الشاعر سيد قطب من هذا التعبير ولست أبالى إن غضب».

بينما يقول الدكتور محمود الشهابى عن شعر سيد قطب إنه «مفعم بالصدق، لا أثر فيه للتكلف أو الصنعة، ومن هنا تكون له أهمية عظمى فى الدلالة على صاحبه، فهو يلقى كثيرًا من الضوء على شخصيته، ومن خلاله نستطيع أن نلمح بعض السمات الخاصة التى تميزه، وأن نرى ما بنفسه من اتجاهات وأهواء».

ثم يتحدث عن ديوانه «الشاطئ المجهول»، فيقول إنه «صورة لما فى نفس سيد قطب من قلق وحيرة أمام الكون بما فيه من أسرار وألغاز، وما يكتنفه من غموض وإبهام. هذا القلق قد صبغ نفسيته بالوحشة، وتلك الحيرة غمرت روحه بالكآبة». ثم يسوق بعضًا من شعره، ليوضح من خلاله أن: الوجود الزاخر بالحياة عنده لا يخرج عن كونه (هجيرًا وأصيلًا)، (طلوعًا وأفولًا)، أمور تحير الفكر وتضنى العقل، فيتبلد إحساس البشر ويسيطر عليهم الذهول. كما أنه لا يرى فى الظواهر الكونية إلا الجانب القاتم المعتم. فليس فى الشمس ضياء ولا بهجة، ولا حرارة ولا دفء، وهى لا تزيد عن كونها تطلع وتغيب. والليل ليس له سحر أو سكون، ولا يحس نحوه برهبة أو خشوع، وإنما هو (كالشيخ الكئيب). والنجوم التى وصفها بالزهر هى فقط (تغدو وتؤوب)، والوجود عنده نقمة لما فيه من الآلام والمشقات، مما جعل التساؤل يجرى على لسان النخلة الصغرى عن الذنب الذى اقترفته حتى تكتب عليها الحياة:

أفلا تدرين يا أختى الكبيرة ما الذى أطلعنا بين اليباب

أيَّما إثم جنينا أو جريرة سلكتنا فى تجاويف العذاب؟ «هامش: قصيدة (فى الصحراء)- ١٩٣٢».

ليكون جواب النخلة الكبرى- التى لها حصيلة من التجارب والفهم والحكمة- جواب العاجز عن إدراك السر الذى لا يعرف سببًا وراء هذا الشقاء ولا يرى مبررًا له:

أنا يا أختاه لا أدرى الجواب ودفين السر لم يكشف لنا

منذ ما اطلعت فى هذا الخراب وأنا أسأل ما شأنى أنا؟! «هامش: القصيدة السابقة»

وفى موضع آخر يقول، متمنيًا الموت لعجزه عن إدراك سر الحياة:

ويا ليت هذا الموت يسرع خطوه فيطوى حيًا عمره رِبحٌ خاسر

غير أن الموت عنده ليس سوى بداية المعرفة وأول الإدراك:

فهيا إذن للموت أروح رحلة لتكشف أستار ويهدأ ثائر «هامش: قصيدة (الإنسان الأخير)- ١٩٣٤».

وهنا يهدأ سيد قطب ويتلاشى روعه، وتغمر كيانه السعادة ويغشاه الاطمئنان لوصوله إلى «الشاطئ المجهول» عنوان ديوانه الشعرى، وهو عالم الروح، حيث تموت حواس الجسد التى تعوق الجمال الروحى عن الانطلاق:

إلى الشاطئ المجهول والعالم الذى حننت لمرآه إلى الضفة الأخرى

إلى حيث «لا تدرى» إلى حيث «لا ترى» معالم للأزمان والكون تستقرا (هامش: قصيدة «إلى الشاطئ المجهول»- ١٩٣٤).

بعدها يسوق من شعره ما يشير إلى أنه كان يشعر بغربة بين أهله وخلًّانه:

غريب أجل أنا فى غربة وإن حف بى الصحب والأقربون «هامش: قصيدة (غريب)- ١٩٣٤».

ويصف الحزن الكامن فى أعماقه وليس من السهل الوصول إلى أسبابه، قائلًا:

أنا لا أبكى على ماضٍ ذهب لا ولا مستقبل ضاع هباء

إنما فى النفس معنى مضطرب لم أجد رمزًا له غير البكاء

ثم يوضح ذاته المنقسمة فى اتجاهين متضادين، فيقول فى قصيدته «فى مفترق الطرق»:

يا رفيق الحياة اسمى وأغلى أن تقضى كذاك وهمًا ضئيلًا

يا رفيق الحياة أقصر عهدًا أن تضحى ساعاتها تخييلًا «هامش: قصيدة (فى مفرق الطريق)- ١٩٤١».

ليرُد نصفها الآخر على الأول قائلًا:

أنا باقٍ هنا فإن شئت دعنى ورد الكون حافلًا مأهولًا

أنا باق هنا أرود طلولى لم أعد بعد أستطيب القفولا «هامش: القصيدة السابقة».

ويرى محمود الشهابى أن معظم شعر سيد قطب يدور حول القضايا الكونية العامة، ومشكلات البشر، وأن هذا يتفق مع مفاهيمه باعتباره ناقدًا، ففى كتابه «النقد الأدبى- أصوله ومناهجه» يُفَضِّل سيد قطب أبا العلاء على المتنبى، لكون الأول يهتم بآلام الإنسانية وآلامها بينما الآخر لا يرى إلا ذاته، وأكثر أشعاره تدور حول نفسه. وهو لا يرى بأسًا على الشاعر من أن ينساق مع أحاسيسه الخاصة على ألا يشغله هذا عن الهدف الأسمى وهو التجاوب أولًا مع مشكلات الناس وقضايا المجتمع. ولهذا أفاض سيد قطب فى الحديث عن النظرات الفلسفية العامة، ولم يطرق الموضوعات الخاصة كالوطنيات والإخوانيات والرثاء إلا قليلًا، ولم يكثر من إنشاء هذا اللون من القصائد.

ويوضح محمود الشهابى أن لعاطفة الحب من شعر سيد قطب نصيب ملحوظ، ففى بعض هذه القصائد تلوح العاطفة ممزوجة بالوقار، وفى بعض قصائده العاطفية تسرى روح الأمل والرغبة فى الاستمتاع بالحياة:

إلىّ إلىّ ولا تجفلى فإنى ظمئت لما تظمئين

وأحسبنى كنت أهفو إليك كما كنت لى فى المنى ترقبين

وشطَّت بنا ندوات اللقاء وضلَّت بنا خطوات السنين 

إلى أن لقيتك فتانة فحركت منى اشتياقى الدفين 

تعالىّ نرو ظمأ السنين تعالىّ نعش للمنى والفتون «هامش: قصيدة (الظامئة)- ١٩٣٤».

وقد يتجاوز حدود الوقار إلى عربدة الشباب ونزق الصبا:

يخفق القلبان بل تهفو الشفاة منذ أن ضمتك فى شوق يداه

منذ أن رن صداها قبلة نهلت منه وعلت شفتاه

وارتوت روحاكما بل ظمئت برحيق القبلات المشتهاة «هامش: قصيدة (داعى الحياة)- ١٩٣٤».