رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هنا غانا.. جولة فى شوارع بلاد الأدغال الساحرة

هنا غانا
هنا غانا

تجربتى فى إفريقيا علمتنى أن تلك القارة مصنع حقيقى لإنتاج الدهشة، الدهشة التى لا تفنى ولا تنتهى مصادرها، لذلك تعلمت فيها أن البساطة هى أرقى ما يمكن أن يتسلح به الإنسان، وأن المعلومة كنز حقيقى ورفيق رائع فى الرحلة.

هذه الدهشة كان لى موعد معها، حينما قررت، لأول مرة منذ إقامتى فى إفريقيا، أن أسافر خارج نطاق شمال القارة الذى مكثت فيه أعوامًا، وتحديدًا إلى غانا، وقبل السفر قررت أن أستفيد من خبرة صديق قديم يعمل فنانًا تشكيليًا، وجعله فنه يتجول فى القارة حتى عرفها.

كانت هناك مخاطر ومحاذير، منها على السبيل المثال السرقة، لكننى كنت أتعامل بمبدأ «إيش ياخد الريح من البلاط»، وهى حكمة دائمًا ما كانت تُردد فى قرانا المصرية.. زياراتى كانت على طريقة «الباك باكرز»، لم تكن منظمة ولم تكن لها جداول معينة، كانت حقيبتى على ظهرى تحتوى على كل ما أحتاجه لأيام من مأكل وملبس وخلافه، وعلى باب الله كنت أسير فى الشوارع وأجمع حكايات الناس، لم تكن معى نقود سائلة، فقد جمّدتها فى بطاقة بنكية مؤمّنة ضد السرقة، ببساطة لم أكن أخشى شيئًا وأنا أتجول فى بلاد الأدغال الساحرة.

عادة عندما تسافر بهذه الطريقة لا تحمل من البلد الذى تجىء منه ما يمكن شراؤه حتى يكون حملك أخف عند العبور من المطار، لذلك لم أزر الأسواق لأتبضع منها، فقط ذهبت إلى «سوبر ماركت» لشراء أدوات نظافة شخصية مثل الصابون وفرشاة الأسنان وغيرهما.

وتكمن الدهشة هنا فى عادات الناس، خاصة النساء وزينتهن، وتحديدًا فى العاصمة «أكرا»، فقد اصطدمت بظاهرة أراها لأول مرة فى إفريقيا، وهى انتشار مساحيق وكريمات تفتيح البشرة المستوردة، وتبين لى فيما بعد أن هذه المنتجات يتم استهلاكها بشكل هائل فى تلك المنطقة، والدليل على ذلك هو توافرها واستيرادها المتواصل بمختلف أنواعها وماركاتها.

تركت المعلومة فى الذاكرة وقررت أن أعرف السبب عند أول فرصة، ولم يمهلنى القدر طويلًا، فقد كانت النادلة التى تقدم لى فطورى فى اليوم التالى من إقامتى فى «الموتيل» تستعمل هذه الكريمات بشكل واضح وكثيف، قررت بعد الإطراء على لون بشرتها، سؤالها عن السر، وصدمتنى الإجابة، بأن الرجال هنا يفضلون النساء ذوات البشرة الفاتحة.

أخبرتها بأن هذا شبه مستحيل، وأن تلك الكريمات تتسبب فى مرض السرطان على الأمد الطويل ولن تجدى نفعًا، لكنها رفعت كفيها كأنها تقول: «ما باليد حيلة»، أخبرتها بأن النساء فى بلدى، وأنا منهن، يتفاخرن بلون «التان» فى الصيف ويستخدمن مستحضرات تُغمّق البشرة على الشواطئ، حتى إننى أخرجت من حقيبتى زيت الجزر الشهير فى صبغ البشرة باللون البرونزى، هنا تركتنى وامتلأت عيناها بعلامات التعجب، وذهبت لتحضر وجبة الفطور لباقى النزلاء، لأنها لم تكن فقط النادلة بل الطاهية كذلك فى هذا النُزل.

أفسدت رطوبة غانا شعرى، وأصبحت السيطرة عليه أمرًا مستحيلًا، قررت الأخذ بالمثل الشهير «إن كنت فى روما فافعل ما يفعله سكان روما»، وذهبت لتضفير شعرى بأحد الصالونات الشعبية القريبة من النُزل، ووجدتها فرصة لأجد إجابة أكثر جدية عن سؤالى: ما الجمال فى أعين سكان القارة السوداء؟

عرفت أن النساء هنا ينفقن أسبوعيًا ما يعادل الـ١٠ دولارات من أجل الحصول على تصفيفة شعر مثالية، وتلك التصفيفة عادة ما تتكون من الكثير من الضفائر التى يُستخدم فى ربطها شعر بلاستيكى مستعار، وليس لهذه التصفيفة بديل هنا إلا عبر حلق الشعر كاملًا كالرجال، وعادة ما تتجنب نساء الطبقة المتوسطة هذا الأمر، لكن أحيانًا يستخدم البعض «باروكة» تُباع هنا فى كل مكان، بداية من الشوارع وحتى المحلات باهظة الأثمان، ويتراوح سعرها بين ٢٠ و٤٠٠ دولار، حسب جودة الشعر، فالشعر البلاستيكى أبخس ثمنًا من الشعر الطبيعى المستورد غالبًا من الهند، وتستغرق تصفيفة الشعر الواحدة نحو ٤ ساعات لكل عميلة، ولا يخلو شارع أو زقاق من محل للتصفيف.

واعتمادًا على عدستى الخاصة، يظهر الجمال على أنه شىء نسبى، وقياسه يعتمد فقط على التفضيل الفردى، رغم أن كل شخص جميل على طريقته الخاصة، وكثيرًا ما نسمع من يقول: «الجمال يظهر فى عيون من ينظر»، بمعنى أن كل إنسان يرى جمالًا من نوع خاص فى الشخص الذى يحبه، لكن هنا فى هذه البقعة من إفريقيا، تكافح النساء ليكنّ جميلات فى عيون رجالهن، حتى لو بمحاولة تغيير طبيعتهن وفطرة ملامحهن البسيطة، لقد اعتبر الكثيرون البشرة البيضاء معيارًا للجمال فى عصرنا، ونرى آثار ذلك على العديد من النساء الإفريقيات اللواتى يحاولن تبييض بشرتهن بشكل مضر للغاية، وقد رصدت منظمة الصحة العالمية تلك الظاهرة، وكشفت فى أحد تقاريرها عن أن النيجيريين هم الأعلى استخدامًا لهذه المنتجات، حيث تُستهلك بنسبة ٧٧٪ ويستخدمها النساء هناك بشكل منتظم.

وانضم العديد من المشاهير الأفارقة إلى «موضة» تبييض البشرة، مثل خانى مباو، وكيلى كومالو، وعارضة الأزياء الغانية مريم عبدالرءوف، فبالنسبة لهن كونك أكثر بياضًا يعنى مزيدًا من الظهور وقربًا أكثر من الشهرة.. فى مجتمع تهيمن عليه القيم الغربية، ليس من المستغرب أن ننظر إلى الجمال بنظرة غربية، إنها ظاهر صنعها أهل المكان بأنفسهم ولم تُفرض عليهم. 

ولسنوات عديدة، عانت النساء ذوات البشرة الداكنة من الدعاية السيئة فى الثقافة الشعبية، فيما يتعلق بجمالهن، حيث يُنظر إلى ملامحهن فى الغالب على أنها شىء يجب تحسينه، فى حين يُنظر إلى النساء اللواتى يقتربن من البياض على أنهن الممثلات المثاليات للسود.. ومع ذلك، هناك بصيص أمل.

ومقاييس الجمال الإفريقى كانت متنوعة إلى حد كبير، ولكن هذا التنوع قد تم طمسه على مر السنين، من خلال الترسيخ لمعايير أكثر قربًا من الثقافة الغربية، ولا تزال فكرة كونكِ إفريقية مسألة معقدة لا يمكن تبسيطها، والأمر لا يتعلق فقط بلون البشرة أو حول شكل الشعر، ولكن بتغريب الثقافة، وترسيخ انطباع بأن النساء الإفريقيات المائلات للون الفاتح هن الأكثر جمالًا ومثالية.

وحينما قررت النزول إلى مصر فى إجازة قصيرة، رغبت فى شراء بعض الهدايا من هنا فى غانا، ولم يكن هناك أفضل من النادلة فى النُزل لسؤالها عن الأشياء المميزة التى يمكن أن أحضرها من هنا، أشارت إلى سوق ليست ببعيدة، ووجدت فيها ضالتى، الكثير من مستحضرات التجميل الطبيعية التى يعتمد السكان المحليون عليها فى التجميل، أشهرها «زبدة الشيا»، وكانت لها نفس رائحة المنتج الذى رأيته سابقًا فى الصالون ووضعته المصففة فى شعرى، هذا المنتج الذى يشكل مصدر حياة للكثير من سكان غانا، ويضاف للكثير من المنتجات التى نراها فى مختلف الماركات الشهيرة.. وكانت «زبدة الشيا» قديمًا تستخدم كدهن فى الطعام، وحاول رجال الأعمال فى الهند زراعة الشجرة التى تنتج الثمرات التى تحوّلها الفلاحات فى غانا لزبدة، ولم تكن النتيجة مرضية إطلاقًا، فبجانب المهارة التى خلّفتها سنوات الثورة الصناعية، واختلاف المناخ، قلّت جودة المنتج، وعرفت كل هذا من مالكة إحدى الماركات التى تُعبئ محليًا المنتج، بعدما قررت التواصل معها عبر موقع التواصل «فيسبوك».

كنت أريد أن أعرف المزيد عن «روتين» العناية، وكشفت لى تلك السيدة عن أن غانا شهدت تكوين حركة تحمل اسم «الجمال الطبيعى» ولها الكثير من المريدين، وهى حركة مهتمة بتوعية النساء حول طرق العناية بالبشرة والشعر عن طريق منتجات طبيعية بعدما انتشرت الأمراض السرطانية التى تسببت فيها منتجات التجميل الكيميائية الرخيصة والمهربة بكثرة فى الأسواق.

وتتبنى الحركة نشر ثقافة تفضيل الجمال المحلى ببساطة عبر إخبار النساء بأنهن جميلات بالشكل الطبيعى، ولا حاجة لهن إلى إنفاق الكثير من الأموال فى محاولة الوصول أو الاقتراب من الشكل الأوروبى، وهذه هى طريقتها فى مقاومة تغريب القارة، حيث تأمل فى أن يتوقف الشباب عن السعى وراء الموضات القادمة من الغرب ومحاولات التقليد التى ستفقد الأفارقة هويتهم يومًا ما إن استمرت، وتلك الهوية تبدأ فى رأيها من الحفاظ على تجعيدة الشعر الإفريقية.

تجولت كثيرًا فى إفريقيا وعرفت أخيرًا أننى كأنثى نحيفة لست الشكل المفضل هنا، فالرجال يفضلون الجسد الممتلئ، وكثير من القبائل يعتبر هذا الأمر نوعًا من الثراء والفخر، فالفتاة النحيفة هنا تساوى أسرة فقيرة، والبدينة تساوى عائلة غنية. 

الأعلام.. رايات يسيطرعليها الأحمر والأسود والأخضر

فى إفريقيا تكون الأعلام والرايات أكثر من مجرد قطعة قماش، فهى تحمل إلى جانب رمزيتها التقليدية إشارات إلى الماضى والحاضر والمستقبل.

وتغلب على أعلام دول القارة السمراء ألوان علم الوحدة الإفريقية، «Pan Africa»، الذى ظهر لأول مرة فى عام ١٩٢٠ فى الولايات المتحدة لتمثيل شعوب الشتات الإفريقى، ورمز إلى تحرير السود، واتحاد الحكم والناس والأراضى، وكان يتكون من ثلاثة أشرطة أفقية متساوية بألوان الأحمر والأسود والأخضر. ويرمز اللون الأحمر إلى الدم الذى يوحد كل الناس من أصل إفريقى أسود، ويُسفك من أجل التحرير، فيما يرمز اللون الأسود إلى الأشخاص السود تأكيدًا على وجودهم كأمة، كما استخدم كرمز للتاريخ القاسى فى بعض الدول، بينما كان الأخضر رمزًا للثروة الطبيعية الوفيرة والنابضة بالحياة لإفريقيا، الوطن الأم. ومنذ تأسيسها، اعتمدت معظم الدول الإفريقية نفس الألوان كرمز للسيادة والوحدة، بعدما تم تبنيها من قبل العديد من المنظمات التى واصلت الكفاح من أجل العدالة وتحرير الشعوب السوداء فى القارة، كما استخدمتها دولة مثل جاميكا، غير الإفريقية، لأن معظم سكانها كانوا من الأفارقة الذين هربوا من العبودية.

وإلى جانب ذلك، أضافت بعض الدول الإفريقية ألوانًا أخرى ذات دلالات لأعلامها، فاختارت مصر اللون الأبيض دليلًا على الآمال المستقبلية والسلام، واختارت دولة تنزانيا إضافة الأزرق ليرمز إلى المحيط الذى يعتمد عليه الاقتصاد التنزانى، فيما حمل علم جنوب إفريقيا ستة ألوان، يرمز كل واحد منها إلى لون من ألوان الطيف السياسى فى البلاد. وأضافت دولة كينيا درعًا خلفها اثنان من الرماح، وهو رمز مستوحى من أحد الأسلحة القبلية، بينما حمل علم جمهورية موزمبيق صورة أحد الأسلحة رمزًا للتحدى والمقاومة.

أموال إفريقيا التاريخية.. الملح والقطن والنحاس والأصداف 

كانت العملات القديمة فى غرب إفريقيا، فى فترة ما قبل الاستعمار، تُصنع من مصدرين رئيسيين، فإما أن تكون من المواد المحلية مثل النحاس والحديد والملح، بعد تصنيعها لتصبح قابلة للتداول، وإما تتكون من بعض المواد المستوردة من تجار المحيطين الهندى والأطلسى، ومن البحر المتوسط. 

وعلى مدى ألف عام على الأقل من تطوير الأسواق المحلية والتجارة داخل القارة، وعبر المحيطات، طوّر الأفارقة الأموال دون أى نوع من السيطرة الحكومية على عمليات صنعها أو استخدامها.

وأقدم إصدار رسمى فى إفريقيا فى مجال النقود كان باستخدام وتداول ذهب غرب إفريقيا عبر موانئ القارة وعلى طول مسارات الصحراء، واستخدام مثقال الذهب كمقياس مستقر إلى حد ما فى أسواق إفريقيا، أسوة بالوضع فى الشرق الأوسط والبحر المتوسط، وكان استخدم الذهب يكثر فى التجارة الدولية.

فى الوقت نفسه، كانت ألواح الملح تستخدم فى التجارة الإقليمية، ورغم أن الملح كان سلعة فإنه فى أوقات وأماكن معينة كانت ألواحه تُعتمد كسعر صرف لتحديد قيمة العملات الأخرى، وإن ظل الغرض النهائى منه هو الاستهلاك.

ووفقًا للرحالة ابن بطوطة، فى القرن الرابع عشر الميلادى، فإن شحنات الملح كان يمكن أن تتساوى مع نصف أوقية من الذهب، لذا كان الأفارقة يستخدمون الملح كوسيلة للتبادل، تمامًا كما يستخدم الذهب والفضة فى أماكن أخرى، بعدما يتم تصنيعه وتقطيعه إلى ألواح وشرائها وبيعها.

كما كانت الملابس المستوردة تعد أيضًا عملة فى المناطق الصحراوية وغرب إفريقيا، وكانت عملة القطن أو «البيسا» وحدة قياسية من القماش يبلغ طولها ١٥ مترًا وعرضها ١.٥ متر. 

وفى غرب إفريقيا، أيضًا، كانت أصداف «الكورى» من المحيط الهندى تعد جزءًا من منظومة العملات، وبحلول القرن الرابع عشر كان استخدامها قد امتد إلى إمبراطورية مالى وإلى تمبكتو، ثم تم اعتمادها فى القرن السادس عشر كعملة معمرة، يكاد يكون من المستحيل تزويرها.

ومع ظهور تجارة الرقيق، كانت الأصداف تستخدم ضمن عملات أخرى فى التبادل بين الأوروبيين والمجموعات الساحلية فى غرب إفريقيا مقابل العبيد.