رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عمرو بن العاص فى «القاهرة الجديدة»

هل كان لنجيب محفوظ موقف معيّن من بنى أمية انعكس فى كتاباته الأدبية؟ 

القارئ لأدب نجيب محفوظ يلاحظ ظهور شخصيات تاريخية تنتمى إلى بنى أمية فى بعض المواضع من رواياته.. ودعونا نتفق بداية على أن استدعاء الحسين وأهل بيت النبى يعد من وجه آخر استدعاء للنقيض التاريخى المتمثل فى بنى أمية، خصوصًا حين يأتى فى سياق التعاطف مع الحسين وأهل البيت.

ظهرت شخصية عمرو بن العاص فى رواية «القاهرة الجديدة» التى تحوّلت فيما بعد إلى فيلم عنوانه «القاهرة ٣٠»، واللافت أنها جاءت فى سياق تناول نجيب محفوظ شخصية «مأمون رضوان»، الإخوانى الذى يشكل أحد أضلاع مربع الصداقة التى جمعت بين على طه ومحجوب عبدالدايم وأحمد بدير ومأمون رضوان. 

كانت كل شخصية من الشخصيات الأربع تسير فى الحياة بقناعة وطريقة مختلفة عن الأخرى.. على طه ثورى رومانسى يسعى لتوعية الشعب بضرورة إخراج الإنجليز من مصر.. ومحجوب عبدالدايم الفقير المعدم المستعد لركل كل القيم الأخلاقية فى سبيل الوظيفة والمال.. وأحمد بدير الصحفى الانتهازى المدمن للأكل على كل الموائد السياسية.. ومأمون رضوان المتدين الذى لا يترك فرضًا والمنضم إلى جماعة الإخوان ويرى فيها الطريق الوحيد لعودة الإسلام إلى سالف مجده.

بطبيعته كان مأمون رضوان يميل إلى الكآبة، وأسهم فى تعميق كآبته انضمامه إلى جماعة الإخوان.. وقد جاء حديث نجيب محفوظ عن عمرو بن العاص فى سياق تعليقه على هذه الشخصية، فقال: «الأستاذ مأمون رضوان إمام الإسلام فى عصرنا هذا، وقديمًا أدخل عمرو بن العاص الإسلام فى مصر بدهائه، وغدًا يخرجه منها مأمون رضوان بثقل دمه».

من المعلوم أن نجيب محفوظًا كان مجيدًا- بقدر ما كان دقيقًا- فى وصف شخصياته، وفى انتقاء المفردات اللغوية التى يصف بها هذه الشخصيات، وهو بالضرورة أيضًا واعٍ كل الوعى بالتاريخ وتفاصيل الصراع الذى نشب بين بنى أمية وأهل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، وبالتالى فإنه عندما يصف عمرو بن العاص بـ«الداهية» فهو يعنى ما يرمى إليه والمعنى الذى يريد ترسيخه فى عقل ووجدان القارئ.

«عمرو بن العاص أدخل الإسلام فى مصر بدهائه»، الوصف يحمل نظرة «نجيب محفوظ» إلى هذه الشخصية التاريخية الكبرى التى كانت توصف بدهائها ومكرها السياسى المعروف، كما أن دورها معلوم فيما يتعلق بالصراع الذى نشب بين معاوية وعلى بن أبى طالب بعد استشهاد عثمان بن عفان.

عمرو بن العاص.. أبوه العاص بن وائل السهمى، وكان من المستهزئين، وهو القائل لما مات القاسم «وفى رواية أخرى عبدالله» ابن النبى، صلى الله عليه وسلم: إن محمدًا أبتر لا يعيش له ولد ذكر، فأنزل الله تعالى: «إنّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ»، وقد أسلم- كما تذكر كتب التاريخ- قبل فتح مكة، بعد غزوة الخندق. 

فى سنة ٢٠ هجرية «٦٤٠ م» تحرك عمرو بن العاص لفتح مصر بعد أن أقنع الخليفة عمر بن الخطاب بذلك، وعندما وصل إلى حدودها تحدث إلى أقباط مصر بلسان سياسى محنك يريد أن يستقطب قلوب وعقول سامعيه، وركز على أن النبى أوصى قبل أن يموت بقبط مصر، لأنهم «أهل ذمة ورحم». 

من المؤكد داخليًا أن حكام البلاد من الرومان لم يكن لهم أن يسلموا بلادهم لمجرد حديث طيب، فقد قاوم الرومان الذين كانوا يحكمون مصر، آنذاك، العرب الفاتحين مقاومة شرسة، وخاضوا ضدهم عدة معارك، لكن الغلبة فى المعركة كانت لجيش عمرو بن العاص الذى تمكن من السيطرة على مصر.

وعندما تولى عمرو بن العاص إمارة مصر اتبع سياسة ذكية ومتوازنة مع أهلها من القبط.. والمتأمل لعهد الأمان الذى أعطاه للأقباط يجد أنه نصّ صراحة على احترام عقيدتهم وحقهم فى التمسك بدينهم، بشرط دفع «الجزية»، وكانت فى ذلك العصر أشبه بالضريبة التى تُفرض على الفرد مقابل «المنعة»، أى حمايته من عدوان الآخرين.

وبعد مدة قضاها واليًا على مصر بدأ «عمرو» الانسحاب من الحياة السياسية، وكان السبب فى ذلك القرار الذى اتخذه عثمان، رضى الله عنه، بعد تولى الخلافة بعزل عمرو عن ولاية مصر، فتحوّل إلى صفوف المعارضة للخليفة، لكن حاله اختلف بعد استشهاد عثمان، فتبدلت مواقفه. 

ويذكر صاحب «الكامل فى التاريخ» أن: «عمرو بن العاص لما بلغه قتل عثمان قال: إن يلِ هذا الأمر طلحة فهو فتى العرب سببًا، وإن يله ابن أبى طالبٍ فهو أكره من يليه إلى.. فبلغه بيعة على فاشتد عليه وأقام ينتظر ما يصنع الناس».

تابع عمرو بن العاص بحذر الصراع الذى نشب بين أم المؤمنين عائشة والصحابيين طلحة والزبير فى موقعة الجمل، ولم يتدخل فيه، ولكن عندما وصل الصراع إلى منصة الشام التى يجلس على إمارتها معاوية بن أبى سفيان بدأ الأمر يختلف، نصحه ولده عبدالله بكف يده عن الدخول فى هذا الصراع، لكن ولده الثانى محمد قال له: « أنت نابٌ من أنياب العرب ولا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت».

احتل عمرو موقع «المشير» داخل قصر معاوية بن أبى سفيان، وأسدى له نصائح سديدة فى مواقف عديدة.. إلى جواره قاتل فى معركة «صفين»، حيث ظل أهل الشام والعراق يتقاتلون فيما بينهم عدة أسابيع دون أن يظهر طرف على طرف بشكل حاسم، حتى نصح «عمرو» معاوية بمطالبة غريمه بتحكيم كتاب الله فيما بينهما، وانتهى الأمر بما تعلم من شق فى صفوف على بن أبى طالب، وانقلاب الخوارج عليه، لينشغل عن معاوية فى قتالهم بالنهروان، ثم استشهاده فيما بعد.

استخدم نجيب محفوظ فى وصف عمرو بن العاص ذلك الوصف الراسخ فى الثقافة المصرية عند النظر إلى شخصيته، وهو وصف الداهية، فتلك هى الصورة التى تشكلت فى الذهنية العامة عنه، والحديث عن الدهاء هو حديث يقع فى حقل السياسة وليس الدين، وتستطيع أن تدرك ذلك بسهولة من القيم التى تتحلق حولها صورة أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم، والتى تقع فى مجملها فى دائرة «القيم الدينية» وليس السياسية.

كما أنه لا يخفى عليك أن الدهاء السياسى لا يتناغم فى المخيلة الثقافية المصرية مع القيم، خصوصًا القيم الدينية، وأن صاحبه عادة ما يمتاز بإسلام شكلى ظاهرى.