رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإنصاف المتأخر للسياسة المصرية

منذ العام ٢٠١٣م ومصر تتعرض لحملات شرسة من أطراف عدة، على المستوى الدولى والإقليمى، ومن أطراف تعتبرهم الدولة المصرية أصحاب أهمية استثنائية، على مستوى الشراكة الاستراتيجية فيما بين القاهرة وبينهم، الولايات المتحدة الأمريكية نموذج لهذه الحالة وتجسيد لكثير مما أقلق وأزعج الإدارة المصرية لفترات. وانسحب الأمر لدول عديدة ولتقييمات ظلت سجينة حزمة- معدة سلفًا- من الأحكام المختزلة، والتأويلات التى ظلت بعيدة على نحو كبير عن واقع السياسات المصرية، الداخلية والخارجية على السواء، حتى بدا الأمر فى كثير من الأحيان لدى الرأى العام المصرى، وكأن هناك سوء «تفاهم» عميق وعريض بامتداد غالبية المواقف الرسمية المصرية، وليشمل أيضًا كثيرًا من أنماط تعاطيها مع القضايا الكبرى التى تخص العالم والإقليم، خاصة مع هذه السنوات الاستثنائية من عمر كليهما.

لم تكن الولايات المتحدة وحدها على الجانب المقابل من الرؤية المصرية، بل كانت هناك الغالبية من الدول الأوروبية، وحتى دول الإقليم التى تعذر عليها تفكيك شفرة الرؤية المصرية رغم اقتراب تماسهم من المكون المصرى عبر عقود. من المفهوم أن هناك من كان يقف وراء محاولة تصوير الدولة المصرية ونظامها الحالى، باعتبارهما حالة استثنائية على المفهوم السلبى طوال الوقت، لكن الغرابة تمثلت فى الارتكان المتكرر من المنصات الإعلامية الدولية ذات الشأن، ومن مراكز الدراسات والأبحاث صاحبة الأسماء الكبيرة، وكلاهما له دور بارز فى صناعة «صورة» الدولة التى يتناولها بالنسبة للرأى العام العالمى، وتنسحب أيضًا إلى السياسيين الذين يتلقون هذه التصورات فى «عجالة» تحرمهم من بعض التدقيق، رغم أهمية بذل هذا الجهد فى التثبت والحرص على تشكيل الصورة الواقعية لسياسات الدول المختلفة، التى تقع مصر فى القلب منها اشتباكًا وتفاعلًا.

من أبرز تلك القضايا والأمثلة لحالة «سوء الفهم»، الذى اعتبره الكثيرون به من التعمد أكثر مما هو قصور فى التعاطى أو التناول، كانت قضية «مكافحة الإرهاب». ففى الوقت الذى كان العالم كله يحتشد لمكافحة الإرهاب، استشعارًا منه بخطورة الظاهرة وتعقيدات ملابساتها، ظلت الحالة المصرية تمثل نوعًا من الاستثناء غير المفهوم ولا المبرر سوى الوقوع الطوعى أو التلقائى فى الفخ السابق الإشارة إليه. وظلت الجهود المصرية فى مكافحة الظاهرة ودفع فاتورتها الباهظة، محل فخر للكل من المصريين الذين يتابعون دولتهم وهى تقوم بجهود جبارة فى كل الاتجاهات، بإمكانيات مؤسساتها الوطنية وخبراتها المقدرة ممثلة فى القوات المسلحة وأجهزة المخابرات العامة والعسكرية ومعهم جهاز الشرطة المصرية. 

وفق مخطط استراتيجى شامل يحوى العديد من الخطط التكتيكية، التى شملت كل خطوط المواجهة المفتوحة داخليًا وخارجيًا، وظل سياج العمل الدبلوماسى مع دول العالم الذى اضطلع به الرئيس شخصيًا ومعه وزارة الخارجية، مسخرًا فى جانب بارز منه لتقديم الدعم اللازم لهذه الجهود. هذا مثال واحد وهناك أمثلة أخرى لقضايا بعضها ذات ارتباط وأخرى لا تقل أهمية، برزت فيها الرؤية والسياسة المصرية التى كانت تغزل برشد وهدوء وثبات انفعالى بما يلزم لهذه القضايا من الاهتمام، منها الحالة الليبية والعلاقات مع السودان ومنطقة شرق المتوسط وشراكاتها وقضاياها المتنوعة، وأمن الممرات الملاحية وقضايا الأمن الإقليمى التى ذهبت إلى نطاقات أبعد وأكثر ثباتًا، مثل مناطق دول الساحل والصحراء وشرق ووسط القارة الإفريقية وغيرها، مما تابعه العالم فى تشكك مستمر وتوجس بعضه مبرر، والكثير منه بدا معاديًا رغم الملمح الشريف الذى أكده الرئيس المصرى بمفهوم حديث وصريح لإدارة العلاقات السياسية والأدوار فى الإقليم.

القضية التى تمثل نموذجًا أكثر دلالة على ما نستعرضه، هى القضية الفلسطينية التى انخرطت فيها الدولة المصرية مبكرًا منذ خطاب تنصيب الرئيس المصرى ٢٠١٤، بتعاط جديد ومتعمق وفى هدوء يدرك تعقيدات وتطورات الحالة ومستجداتها. المهم فى الأمر اليوم أننا لسنا بمعرض استعراض تلك الجهود وهى كثيرة، وربما بأكثر مما يتوقع الداخل والخارج، لكن صباح الأربعاء بدا هناك تصحيح متأخر لرؤية الإعلام الدولى للسياسات المصرية على صعيد هذا الملف، ظهر على كبرى المنصات الإخبارية التى تسهم فى تشكيل «الصورة» لدى قطاع هائل من الرأى العام العالمى، وهى وكالة «بلومبرج» الدولية التى تأسست عام ١٩٩٠ ويقع مقرها فى نيويورك وتحظى بمكانة رفيعة ليست خافية على أحد. هذه الوكالة نشرت الأربعاء تقريرًا مهمًا جدًا بعنوان «حرب غزة .. فرصة لإظهار دور القاهرة فى قضايا الشرق الأوسط»، وحمل التقرير فى طياته ما يشبه «الإنصاف» المتأخر لدور ومكانة مصر فى الإقليم والعالم بشكل واضح وبكلمات وتقديرات لا تحتمل التأويل وخالية من أى التباس. 

فمما جاء بالتقرير على سبيل المثال؛ إنه مع توخى بايدن الحذر بشأن تخصيص الموارد السياسية والدبلوماسية الأمريكية لهذا الجهد، يقع العبء الثقيل لهندسة وقف إطلاق النار مرة أخرى على عاتق مصر. وبالنسبة لحكومة الرئيس عبدالفتاح السيسى، هذه فرصة لإظهار مركزية دور القاهرة فى قضايا الخلاف الرئيسية فى الشرق الأوسط. ويستعرض أيضًا بعضًا مما جرى بالإقليم من متغيرات خلال الأعوام الماضية، فى إشارة ذكية تمثلت فى أن هناك ممثلين آخرين حاولوا احتلال مركز الصدارة، حيث تحولت حماس إلى قطر للحصول على الأموال، ولإيران لاقتناء الأسلحة، ولتركيا للحصول على دعم سياسى. 

ومن جهتها، وجدت إسرائيل حلفاء جددًا فى العالم العربى من خلال توقيع «اتفاقيات إبراهيم» مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب. لكن الأمور بدأت فى التبلور بوضوح لصالح الرئيس السيسى فى الأشهر القليلة الماضية؛ فالعلاقات مع تركيا آخذة فى التحسن بعد سنوات من الخلاف بشأن دعم أنقرة لجماعة الإخوان، وأصبحت مصر لاعبًا محوريًا فى المنافسة على الموارد الهيدروكربونية فى شرق البحر المتوسط، وأصبح لدى مصر صديق جديد هو الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، يمكن أن يعوض جفاء العلاقات مع الولايات المتحدة فى حال مالت إليه فى عهد بايدن. 

وطوال الوقت، حافظت مصر على اتصالاتها فى غزة، حيث تحسنت العلاقات مع حماس عام ٢٠١٧، بعد أن قطعت علاقاتها بجماعة الإخوان، وسعت مصر للتوسط فى المصالحة بين الفصائل الفلسطينية المختلفة. فعلى الرغم من كل الدعم الذى تحصل عليه فى أماكن أخرى، فإن حماس بحاجة إلى البقاء فى حظوة القاهرة طوال الوقت. بعد فترة وجيزة من بدء القتال الأخير، أمر السيسى بفتح المعبر الحدودى لإيصال الجرحى من غزة إلى المستشفيات فى مصر، ولتدفق المساعدات الإنسانية فى الاتجاه المعاكس، وتعهد بـ٥٠٠ مليون دولار لإعادة الإعمار، كما فتحت حكومته اتصالات مع زعيم حركة حماس إسماعيل هنية، وأرسلت وسطاء إلى القدس. 

فى المقابل، فإن دول الشرق الأوسط الأخرى بما فى ذلك الموقعون العرب على اتفاقيات إبراهيم، لا يمكنها سوى تقديم الدعم الخط الخطابى للفلسطينيين. هذه السطور على عهدة وتقييم وكالة «بلومبرج» كما جاءت نصًا، كما ختمت تقريرها بالقول: إن جهود مصر فى حد ذاتها قد لا تسفر عن هدنة عاجلة، فلن يتوقف القتال إلا عندما يعتقد كلا الطرفين المتحاربين أنه وصل إلى نقطة تناقص العوائد، حيث تتجاوز تكلفة القتال المكاسب العسكرية أو الدعاية، وحين وصول إسرائيل وحماس إلى تلك المرحلة، سيكون على مصر أن تلجأ لتفعيل الوساطة على مستوى متقدم، حينها ستكون هناك لحظة نجاح كبير يتذوقها السيسى، بينما يكتفى جو بايدن بأن يعبر عن دعمه من الخطوط الجانبية.