رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«نداء الحسين» فى «الثلاثية»

محمود خليل
محمود خليل

 

«خالك كمال من محاسيب الحسين».. كذلك رددت خديجة ابنة السيد أحمد عبدالجواد عندما سمعت ابنها أحمد المنتمى إلى إحدى الحركات الشيوعية يعرّض بإيمان أخيها كمال عبدالجواد.

«مالهم الشيوعيين.. بابا بيحب أتباع سيدنا على جدًا» وكذا علقت عائشة على كمال عبدالجواد، وهو يحدثها عن أحمد «ابن خديجة» أختها الذى أصبح شيوعيًا، إلى أن أفهمها أن كلمة شيوعى غير كلمة شيعى. 

لم تكن مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين تعتنى بالشأن المذهبى الذى يُفرّق بين الشيعة والسنة، كان المحبون لأهل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، يعبرون عن ذلك كما شاءوا وشاء لهم هواهم الميال إلى الرهط الكريم من أبناء على بن أبى طالب وفاطمة الزهراء، ابنة النبى، صلى الله عليه وسلم.

والمتصفح لما سجله نجيب محفوظ حول تاريخ المجتمع المصرى خلال النصف الأول من القرن العشرين وأنماط تفاعل المصريين مع الإسلام، خصوصًا فيما يتعلق بمذاهبه، سيجد أن الأديب العالمى لم يتردد فى إبراز وجه التشيّع لأهل بيت النبى والاحتفاء به فيما سطره قلمه.

ومن نافلة القول أن نذكر أن العلاقة التى ربط فيها نجيب محفوظ بين التشيّع وشخصية على بن أبى طالب، رضى الله عنه، قائمة فى تاريخ الشيعة. ومن المعلوم أن التشيع لعلى بدأ منذ الأيام الأخيرة فى حياة النبى. 

فقد كان العباس بن عبدالمطلب دائب الإلحاح على «على» فى الدخول إلى النبى والحديث إليه فى شأن الأمر من بعده، وعندما علم أنه، صلى الله عليه وسلم، يريد أن يملى كتابًا للأمة لا تضل من بعده أبدًا وجه عليًا بأن يسأله عن أمر هذا الكتاب، خصوصًا بعد أن علم أن عمر بن الخطاب منع القوم من ذلك، وقال: «عندنا كتاب الله فيه ما يكفى»، وربما يكون عمر قدّر أن الموقف لم يكن بالمناسب لإملاء مثل هذا الكتاب.

كان الأنصار أيضًا منحازين إلى على بن أبى طالب، ويحلمون بأن يؤول أمر الأمة إليه بعد وفاة النبى، وقد عبروا عن رغبتهم تلك فى أكثر من موقف، وعندما جدّ الجد وتولى على بن أبى طالب أمر الخلافة ونشأ صراع بينه وبين معاوية انحاز الأنصار إلى على وقاتلوا معه أهل الشام، وكان على رأسهم قيس بن سعد بن عبادة، وقد بايع قيس الحسن بن على بعد اغتيال أبيه على يد عبدالرحمن بن ملجم على قتال أهل الشام إلى أن يظهر عليهم.

إذن كان الشيعة مبدأ ظهورهم مجرد جماعة داعمة لأحد المرشحين للسلطة بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، «على بن أبى طالب» دون أى رؤية سياسية واضحة، وكان السند الوحيد الذى يستندون إليه فى الدفاع عن أحقية «على» بالخلافة هو الانتماء إلى بيت النبى.

بعد اغتيال على بن أبى طالب آل الأمر إلى ولده الحسن الذى رأى أن يحقن دماء المسلمين، فتنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبى سفيان، على أن ترجع ولاية الأمر إليه بعد وفاة معاوية، لكن ماءً كثيرًا جرى فى النهر بعد ذلك، فمات الحسن، رضى الله عنه مسمومًا كما يذهب أغلب كتب التاريخ، وأخذ معاوية البيعة لولده يزيد من بعده والسيف فوق رقاب المسلمين، وقد آل الأمر بعد وفاته إلى يزيد، وهو ما رفضه الحسين بن على، ما دفعه إلى التحرك نحو العراق للاستقواء بمن دعوه من شيعته هناك لمواجهة «يزيد»، ثم كان ما كان مما وقع فى كربلاء واستشهاد الحسين، ليكتسب رمزية خاصة لدى الشيعة منذ استشهاده وحتى اللحظة المعيشة.

ولو أنك قلبت فى صفحات ثلاثية نجيب محفوظ فسوف تجد «الرمزية الحسينية» حاضرة بقوة، وسوف تشعر وأنت تتنقل بين مواضعها وأجزائها المختلفة أن الحسين كان مصاحبًا لأسرة السيد أحمد عبدالجواد فى كل المواقع والمواقف، يستوى فى ذلك رجالها مع نسائها، وأطفالها وشبابها مع كبارها.

فزيارة الأم أمينة لضريحه الشريف كانت السبب فى تركها المنزل فى رواية بين القصرين، حين غضب السيد أحمد عبدالجواد لأنها قامت بالزيارة دون استئذانه.

وفى المشهد الافتتاحى من رواية «السكرية» يظهر السيد أحمد عبدالجواد مخاطبًا أمينة:

- أراهن على أنك زرت الحسين كالعادة رغم هذا البرد.

فقالت أمينة فى حياء وارتباك:

- فى سبيل زيارته يهون كل صعب يا سيدى.

- الحق علىّ وحدى.

فقالت أمينة فى استرضاء:

- إنى أطوف بالضريح الطاهر وأدعو لك بالصحة والعافية.

يشير نجيب محفوظ أيضًا إلى أن كمال عبدالجواد الابن المثقف كان من «محاسيب الحسين». حتى لقاءات الشيخوخة بين السيد أحمد عبدالجواد ورفاق شبابه كان مركزها مسجد الحسين، حيث يجتمعون فى صلاة العشاء، ثم يتحركون إلى زيارة صديقهم على عبدالرحيم الراقد فى فراشه منذ شهور.

وعندما استبد الحزن بعائشة بعد وفاة ابنتها بادرت أمينة أمها إلى القول: «رحمته وسعت كل شىء طاوعينى وتعالى معى ضعى يدك على الضريح واتلى الفاتحة تتحول نارك إلى برد وسلام كنار سيدنا إبراهيم».

منذ استشهاده فى كربلاء وما صاحب ذلك المشهد الموجع من اعتداء على أهل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، من جانب الجيش الذى سيّره يزيد بن معاوية اكتسب «الحسين بن على»، رضى الله عنه، رمزية خاصة فى قلوب المسلمين عمومًا والمصريين على وجه الخصوص، يمكن القول بأن وجود السيدة زينب فى مصر كرّس هذه الرمزية بصورة أو بأخرى، فقد كانت شقيقة الشهيد، وقد وصلت إلى مصر مع من تبقى من أهل البيت الكرام، وعاشت بين المصريين وعطفت عليهم، فبادلوها محبة بمحبة وعطفًا بتعاطف. ومن المؤكد أيضًا أن صور التبجيل التى تكرست فى حياة المصريين لسبط النبى شكلت جزءًا من المركب الثقافى المتوارث الذى تأكد فى العصر الفاطمى وامتد عبر الزمان والمكان.

وبالتالى فشغف نجيب محفوظ باستدعاء شخصية الحسين فى كتاباته المبكرة، يعكس ولعه بكل ما هو محلى، ورهانه على أن التعبير عن مكونات الثقافة المحلية الراسخة بداخله هو ما يمنح أدبه صك الخلود، وقد دعم من هذا المكون بداخل الأديب العالمى نشأته فى حى الجمالية بالقرب من حى الحسين، بما يحمله المكان من عبق ثقافى وإرث تاريخى.

محبة أهل البيت جزء من أدب نجيب محفوظ، لأنها مكون من مكونات الوجدان المصرى المتسامح.