رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صلاح فضل: التدين الشكلى يهدد المواطنة ويمنع التقدم (حوار)

الدكتور صلاح فضل
الدكتور صلاح فضل

الدكتور صلاح فضل دائرة معارف تمشى على الأرض، وتجربة إنسانية وعلمية شديدة الخصوصية والتفرد، وعقلية موسوعية أدلت بدلوها فى جميع مناهل الثقافة والعلم، وقدّم للمكتبة العربية شلالًا من المؤلفات والكتب والدراسات والأعمال، ما بين نظريات النقد والحداثة والفنون والآداب والدراسات اللغوية والفلسفة وغيرها من مناهل المعرفة.

وفى الجزء الثانى من حواره مع «الدستور»، تحدث الدكتور صلاح فضل، رئيس مجمع اللغة العربية عن تغير الخطاب الدينى فى المملكة العربية السعودية، على يد الأمير سلمان وولى عهده، وذلك بالتخلى عن «قدسية الفكر الوهابى»، مشددًا على أهمية هذا الأمر فى حركة التقدم والتنوير العربية، داعيًا لاستغلال هذه الفرصة الذهبية فى الدفع بحركة التنوير إلى الأمام.

 

■ كيف ترى التغييرات الحالية فيما يتعلق بالخطاب الدينى بالمملكة العربية السعودية؟

- أولًا.. أود أن أشير إلى أننى أتحدث بصفتى الشخصية وأستجيب لقناعتى وآرائى ورؤيتى، التى طالما دافعت عنها بعد أن آمنت بها وأنضجتها بعد سنين عديدة، ولذلك لا أحمل أى هيئة أنتمى إليها، وبخاصة الهيئة التى أشرف برئاستها، وهى مجمع اللغة العربية، باعتباره منارة عظمى فى مصر والوطن العربى، لا أحمله ولا أحمل زملائى، أعضاءه، مسئولية ما أقول، وإنما أعبر عن رأيى الشخصى وأتحمل المسئولية، التى لطالما أرهقتنى باعتبارى مثقفًا مشغولًا بالشأن العام إلى جانب التخصص الذى أحرص عليه وهو الفكر الأدبى والنقدى والجهد الثقافى.

فى الواقع، إننى كثيرًا ما أسمع عن فشل حركة التنوير التى قادها المثقفون المصريون وكانوا طليعة النهضة العربية لها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين حتى يومنا هذا، ولا أريد أن أتحدث كثيرًا عن التاريخ البعيد، وسأقتصر فحسب على ما هو ماثل فى أذهاننا من التاريخ القريب.

من المعروف أن فترة الركود العقلى والعلمى والتخلف الحضارى الذى عانته مصر والوطن العربى تمثلت فى خمسة قرون جثم فيها العثمانيون على أنفاسنا بحكم مصر، منذ مطلع القرن السادس عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبًا، والأتراك على وجه التحديد كانوا قوة عسكرية حمت الحضارة العربية الإسلامية، لكنها جففتها ولم تضف إليها شيئًا وعزلتها عن عصر النهضة الأوروبية.

حتى إنه عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر وأقام المجمع العلمى المصرى الفرنسى وأعضاؤه فى بيت السنارى، وذهب وقتها عبدالرحمن الجبرتى، المؤرخ المصرى الشهير، ليرى بعض التجارب الكيميائية ظنها من فعل الجن والشياطين، لأن المتعلمين والشيوخ وكبار قادة الرأى فى الوطن العربى ومصر على وجه الخصوص لم يكونوا على دراية بأى من منجزات عصر النهضة، ولا بالتطور الذى حدث فيه، مع أن الثقافة العربية الإسلامية كانت عبر الأندلس إحدى الآليات الهامة التى ساعدت على انبثاق هذا العصر وعلى ازدهار حركة الفكر العلمى والتجريبى.

على أى حال مهما اختلفنا مع من قال إن الثورة الفرنسية هى التى آذنت باشتعال حركة الحداثة فى مصر والوطن العربى، وهى التى أسهمت فى تخليص مصر إلى درجة كبيرة بشكل غير مباشر، كنوع من الاحتلال الفرنسى، ليحل محل الاحتلال التركى، وعصر الباشوات والأغوات، ومهد ذلك لبناء الدولة المصرية الحديثة على يد محمد على، خاصة فى ثلاثة جوانب جوهرية من الجانب المتصل ببناء الدولة الحديثة، والمتصل بالتعليم بمختلف مستوياته، والمتصل بالتواصل مع الثقافة العالمية الأوروبية خاصة والترجمة والنقل عنها، وبداية قيام الدولة المصرية التى كانت نموذجًا يحتذى لبقية الدول العربية.

وعندما قطعنا مرحلة فى ذلك فى القرن التاسع عشر بأكمله والنصف الأول من القرن العشرين، كان من الواضح أن مصر استقطبت العقول العربية وأنشأت بنى تعليمية وإعلامية وفنية وإبداعية وثقافية جددت نسيج الفكر العربى فى السياسة والاقتصاد والأدب والثقافة والمعرفة والعلوم، وجددت حيوية الشعب العربى، وكانت إلى جانب المراكز الثقافية النشطة فى الشام والعراق تقود قاطرة التنوير والنهضة العربية وتمضى بها نحو التقدم.

عندئذ حدثت فى المملكة العربية السعودية أحداث كثيرة، يعنينى منها، على وجه التحديد، سيطرة الفكر الوهابى وتحالفه العميق الذى لا ينفك مع النظام الحاكم فى المملكة العربية السعودية، والفكر الوهابى بطبيعته فكر متجمد ومتشدد ومضاد للعلم والحس الأثرى والتاريخى، ومضاد لحركة التنوير والتقدم، حتى إن مفتى الوهابيين فى السبعينيات من القرن الماضى، عندما كنت أزور المملكة العربية السعودية، كان يفتى بالقول بكفر من يقول بكروية الأرض.

تخيل إلى هذا الحد كان تقلص الفكر الوهابى وتجمده، نتيجة لذلك يحلو لى دائمًا أن أتمثل مركبة التنوير والتقدم العربى، بأن كان لها رأسان، رأس يقوم على حركة التنوير العربية التى أشعلت جذوتها فى مصر، واحتضنت العقول العربية كلها، وتضامنت فيها مع الشام والعراق، وبواكير النهضة فى المغرب؛ لكى تقود العالم العربى إلى الأمام، ورأس آخر يشدها إلى الخلف، عبر تجميد الفكر الدينى، وجعله معوقًا بالدرجة الأولى للفكر العلمى، وللنهضة والتقدم وتحرير المرأة، ومدنية الدولة.

كان نموذج الدولة الدينية التى تمارس أبشع أشكال، لا أقول التطبيق الحرفى، ولكن الفهم المتخلف للنصوص الدينية وإغلاق باب الاجتهاد أمام المفكرين والمثقفين وتجاهل الحركة الحضارية والتقدم الإنسانى، وإعطاء ظهرها لموجة التحضر كلها، كان نموذجًا فادحًا ترتب عليه فى العقود الأربعة الماضية أن انبثقت منه حركات التطرف والتشدد الإسلامى عندما تم احتضان «الإخوان المسلمون» الذين طردهم عبدالناصر من مصر، الذين بدورهم أسسوا القاعدة وكل الحركات الجهادية المتطرفة التى انتهت إلى شكلها الإرهابى القبيح.

لذلك عندما آذنت حركة التاريخ بالتحول ونضجت فكرة أن تذبل وتضعف قبضة الوهابية على النظام السعودى وتتعرض للتغيير الجذرى على يد الملك سلمان وابنه الأمير محمد ولى العهد، على وجه التحديد، لأننى أعتقد أن ولى العهد لا يستطيع وحده أن يتبنى مثل هذا التوجه إلا إذا كان والده داعمًا له، ودون أن أدخل فى تفاصيل سياسية كثيرة، غير أننى شعرت حقيقة بأن تيار التنوير العربى لا بد أن يمتلك قوة دفع هائلة بعد تحجيم السلفية والوهابية والفكر المتشدد فى المملكة العربية السعودية.

وما ألاحظه هو أن المفكرين المصريين، والكتّاب على وجه التحديد منهم، ويقينى أنهم يشعرون بالغبطة لهذه الاتجاهات منذ أن استشعروها، لكنهم لا يعبرون عن ذلك بشكل واضح وصريح، رغم أن هذا يعتبر انتصارًا حقيقيًا لجوهر الدين الإسلامى، الذى يتمثل فى الحفاظ على القيم الروحية والمنظومة الأخلاقية، ولا يمكن أن يقف عند حدود الشكليات التى كانت الوهابية تحرص عليها فى الملبس والحجاب وفى غير ذلك من التدين الشكلى السلفى، الذى يهدد فكرة المواطنة فى مجتمعاتنا ويقف عقبة فى سبيل التقدم وأحسب أن التاريخ سيذكر لهم ذلك.

■ كيف خطف الوهابيون وسطية الدين الإسلامى وحولوها إلى تشدد وتطرف؟

- هؤلاء الوهابيون حاولوا اختطاف الأزهر الشريف من مصر، الذى لطالما ظل منارة للوطنية ومنارة للوسطية، وحاولوا جذب علمائه لكى يعيدوا تشكيل عقولهم فى جامعة الإمام سعود فى الرياض التى لعبت هذا الدور، ولكى يطبعوا الأزهر بالطابع السلفى، ووصلوا فى ذلك إلى مدى خطير جدًا، عندما حاولوا أن يعيدوا طبع كتب التوحيد والفقه الإسلامى والمراجع الأساسية لكى تتوافق مع الفكر السلفى الوهابى بالتحريف وهذا أمر فى غاية الخطورة، وكسبوا مشايخ كثيرة من الأزهر وجندوهم فى هذا الصدد، بل هم الذين أنشأوا كلية لذلك تعتبر معقل السلفية فى الأزهر وهى كلية الدعوة الإسلامية.

كنت أراقب ذلك الأمر مع غيرى من المثقفين بكثير من الحزن والألم، لأن الأزهر الذى تعتز به مصر وتفخر باحتضانه كل أفواج المسلمين يتحول هكذا للسلفية حتى قيد الله له شيخًا مستنيرًا وعالمًا جليلًا وهو الإمام أحمد الطيب الذى حارب بإخلاص شديد هذا التيار السلفى.

يعانى الإمام أحمد الطيب من مشاكل حقيقية مع بقايا السلفيين فى الأزهر، وتتمثل على وجه التحديد فى هيئة كبار العلماء التى تشكلت فى العهد الإخوانى- السلفى عقب ثورة يناير، ولم يتغير تشكيلها إلى الآن، لذلك لا بد من إعادة تشكيلها، اليوم، حتى تتوافق مع توجهات الثقافة الدينية المستنيرة، ومع توجهات الدولة المصرية، ومع توجهات هذا التفكيك الذى نترقبه ببهجة وامتنان لأواصر الوهابية داخل المملكة العربية السعودية ذاتها.

وما أريد أن أقوله فى هذا الصدد إنه حان الوقت لمركبة التطوير والتنوير والنهضة فى الفكر الدينى وفى الفكر العلمى والثقافى أن تنطلق بقوة دفع واحدة فى اتجاه المستقبل بما فعلته التوجهات الجديدة فى المملكة العربية السعودية.

■ ما المطلوب الآن لإفساح الساحة أمام النخبة والمفكرين من أجل العمل على استعادة ما تصفه بـ«روح مصر المدنية»؟

- طالبت منذ فترة بمراجعة القوانين المصرية، خاصة ما يتعلق بجزئية ازدراء الأديان، والقوانين الأخرى المشابهة له، التى تحد من حرية الفكر، وتمنع الاجتهاد وتدين المخالف بحجة أنه خرج على الإجماع، فليس هناك اجماع دائم، فلم نعد فى عصر إجماعات، ولكننا فى عصر التعدد الثقافى والتنوع الخلاق وفى عصر الاستفادة من اختلاف الآراء وفى عصر قبول الآخر، وفى عصر اعتبار الهوية ليست ثوابت أساسية غير قابلة للتطور ولا النمو ولا التغيير.

الإنسان يمر بمراحل من الطفولة والمراهقة والشباب والنضج والكهولة والشيخوخة، والمجتمعات تمر بمثل هذه المراحل، ولا يمكن أن ينطبق عليها كلها فى مستوياتها النفسية، أو مستوياتها الاجتماعية، أو مستوياتها الاقتصادية، أو السياسية، أو الفكرية والثقافية، قوانين موحدة، إنما لا بد لها أن تنخرط فيما انتهت إليه البشرية من قوانين، تمثلت فى الوثائق الدولية التى تحفظ للكيانات حقوقها، وتحفظ للحريات حقوقها، وتحفظ للدول استقرارها.

لا بد أن نؤمن بذلك، ولا يمكن أن نتصور أننا نبدأ من الصفر أو أن من حقنا أن نعيد حياتنا إلى ما كانت عليه حياة أجدادنا الأقدمين، فهذا مستحيل بكل المقاييس، وهو وهم كبير جدًا نجح أنصار الإسلام السياسى فى أن يشيعوه بين الناس، وأن يجعلوه القاعدة التى يمثلونها، بأن تحقيق العدالة المطلقة وجنة الله على الأرض يعنيان التنكر لنتائج الحضارة الإنسانية المعاصرة، ويعنيان العداء المطلق للثقافات الأخرى، وتعنيان العزلة التامة عن محاولة الشراكة الحضارية المعاصرة، فهذا الوهم الضخم الذى يعرف من يروجونه أنه كاذب وباطل وأنه مجرد وسيلة للاستيلاء على السلطة، وأنهم لا يستطيعون تطبيقه على الإطلاق، وأنهم مضطرون أن يعيشوا فى هذا العصر فى كل ما فيه من محاسن وآثام، وبكل ما فيه من مزايا ومكارم، بكل ما فيه من تقدم ومن جريمة، وأن يحاولوا قدر الإمكان أن يتمثلوا قائمة القيم الرفيعة التى دعا إليها كل الأديان، التى انتهت الإنسانية إلى اعتبارها مقدسات جديدة.

فقيمة العلم والحرية والحفاظ على القيم الروحية والأخلاقية، مهما تعددت الأديان وتنوعت الثقافات قيم قد لا تحكم العالم اليوم فى مؤسساته، فقد نجد القوة هى التى تفرض نفسها، وقد نجد أن الأنانية التى تحكم تصرفات الشعوب، وربما كان الوباء-الجائحة التى نمر بها اليوم- وأزمة اللقاحات فى العالم التى نعانيها مظهرًا من مظاهر افتقاد هذه العدالة، لكننا لا بد أن نضم أصواتنا إلى الأصوات الرشيدة التى تدعو إلى إعمال العقل فى حل النزاعات الإنسانية وإعمال مبدأ التضامن البشرى والإنسانى.

كذلك إعمال فكرة العدالة بين المجتمعات المختلفة، وفكرة حقوق الإنسان فى الحياة أولًا، وفى الحرية ثانيًا، وفى التنوع الدينى والطائفى والثقافى، وفى التعايش السلمى، وفى الرخاء ثالثًا، وأن نقف ضد أى عدوان وضد أى كراهية وضد أى نبذ للمجتمعات الأخرى وضد أى اعتداءات على حقوقنا.

نحن نعانى مثلًا الآن من عداء بعض جيراننا فى الجنوب وفى الشرق، وعلينا أن نعالج ذلك بما يحفظ علينا حياتنا، وبما يحفظ علينا قدراتنا، وبما يحفظ سمعتنا الحضارية، وقدرتنا على إدارة خلافاتنا بسلم ومودة، وألا نلجأ إلى أى شىء عنيف إلا إذا وجدنا أننا مهددون فى مستقبلنا وفى مصادر حياتنا، لا بد لنا أن نتضامن بقدر ما نستطيع، ونعمل حسنا الوطنى وحسنا القومى وحسنا العروبى وحسنا الإسلامى، وألا نجد أى تعارض بين هذه الجوانب المختلفة.

 

الإسلاميون أشاعوا وهم أن تحقيق العدالة يعنى التنكر لنتائج الحضارة المعاصرة

جوهر الدين يتمثل فى الحفاظ على القيم الروحية ولا يمكن أن يقف عند حدود الشكليات