رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرية الدينية فى الإسلام.. النص الكامل لأخطر كتب عبدالمتعال الصعيدى

عبد المتعال الصعيدي
عبد المتعال الصعيدي

يؤمن الشيخ عبدالمتعال الصعيدى بأن «حرية الاعتقاد مطلقة»، ومن ثم فإنه يقف على ضفة الإسلام الحقيقية «لا إكراه فى الدين»، فطبيعى أن يسقط هنا القول المشهور بأن «المرتد عن الإسلام يُستتاب أولًا ثم يقتل إن لم يتب»، بل إنه من الرأى الآخر، رأى الإسلام الحق، بأن «المرتد يستتاب أبدًا ولا يقتل».

فى البداية، فند «الصعيدى» تدليس الإجماع على أن «المرتد يستتاب ثم يقتل» مستندًا فى ذلك إلى أدلة شرعية لا يتسرب إليها الشك، واشتبك مع القائلين بعكس ذلك، ثم عرض لرأى «ابن حزم» حول هذه القضية وفندها أيضًا، ونواصل اليوم قراءة اجتهاد «الشيخ الجليل» حول هذا الملف الساخن.

معنى «لا إكراه فى الدين» الذى لا يعرفه الفقهاء

هذا الكتاب طُبع لأول مرة عام ١٩٥٥، وهو «دُرة» كتابات عبدالمتعال الصعيدى، وهذا لأن مضمونه يحوى جوهر مشروعه الذى جاهد فيه لتفعيل واستمرارية باب الاجتهاد، وتجديد علم أصول العقيدة، وتحديث آليات الدعوة والمواجهة والنقد، فضلًا عن أهمية القضية التى تناولها، ألا وهى: تجديد فقه الحدود، والحكم على المرتد، تلك القضية التى ما زالت أصداؤها تتردد فى كتابات المحافظين والمجددين على حد سواء.

وعبدالمتعال الصعيدى «مُجدد كبير»، ولد فى السابع من مارس عام ١٨٩٤، بمحافظة الدقهلية، وبدأ رحلته من «كُتاب» القرية ثم انتقل إلى إحدى المدارس الأولية ومنها إلى المدارس الابتدائية النظامية ثم الجامع الأحمدى بطنطا- إحدى منارات المعاهد الأزهرية- ثم القسم العالى بالمعهد.

وأظهر «الصعيدى» نبوغًا مبكرًا أدهش كل من عرفوه، وقد أظهر تأثرًا بدعوة محمد عبده لإصلاح الأزهر وتجديد الفكر الدينى، وأعُجب بفلسفة ابن رشد، لا سيما محاولة توفيقه بين الحكمة العقلية والنصوص الشرعية.

وفى عام ١٩١٨ رحل إلى القاهرة لاجتياز امتحان العالمية... وبدأت من هنا رحلة المفكر التجديدى العظيم، فشرع فى تقديم كتابه «نقد نظام التعليم الحديث فى الأزهر الشريف»، غير أن ظروف ثورة ١٩١٩ حالت بينه وبين ذلك.

عكف «الصعيدى» بعدها على مطالعة كتب التاريخ والفلسفة واللغة والأدب والفقه والحديث والتربية وطرق التعليم الحديث، وقد مكنته سعة معارفه من اصطناع منهج مغاير لرفاقه الأزهريين، وراح يؤلف مصنفات على هذا المنحى الجديد الذى يُعوّل على الفهم قبل الحفظ، واستنباط المعلومات من الأمثلة، وبسط الآراء عن طريق المناقشة، والمحاورات العلمية أثناء إلقاء الدرس... وكان أن أثرى المكتبة المصرية والعربية بكتابات فى منتهى الأهمية، وذخرت حياته بعشرات المعارك الأدبية والفكرية حول قضايا الأدب وتاريخه وعلوم البلاغة والفصاحة والإعجاز البيانى للقرآن والوحدة الإسلامية وسيرة النبى وحقيقة الأصولية الإسلامية، وتجديد علم الكلام وفقه الحدود والحب العذرى فى الإسلام.

وهذا الكتاب كان واحدًا من هذه المعارك، فهو بالأساس مناظرة بين الشيخ عبدالمتعال الصعيدى والشيخ عيسى منون، أثبت فيها الأول أن أصول الشريعة الإسلامية لم تكن قط مناهضة للحرية الإنسانية ولا معادية لحرية البوح والعقيدة.

فلقد حفل النصف الأول من القرن العشرين بعشرات المساجلات والمناظرات والمحاولات النقدية حول العديد من القضايا بين الجامدين من شيوخ الأزهر من جهة، وكان عيسى منون- عضو لجنة كبار العلماء- واحدًا منهم، وبين المحافظين المستنيرين من المجددين من جهة ثانية، وغلاة المستشرقين من جهة ثالثة، والمتشبعين t الغربية من جهة رابعة.

أما كيف بدأت هذه المناظرة؟.. فالقصة أن الشيخ عيسى منون اعترض على اجتهادات الشيخ الصعيدى، التى كان يطرحها على صفحات مجلة السياسة الأسبوعية منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضى، والكتاب- الذى نحن بصدده- فى مجمله لا يخرج عن نطاق وقائع مساجلة كلامية بين هذين الشيخين.

ويذهب عبدالمتعال الصعيدى فى مقدمة كتابه إلى أن التجديد والاجتهاد من السنن التى فطر الله عليها العقل، وصرح بأن الهدف الذى يرمى إليه من نشر هذا الكتاب هو إثبات أن الحرية الدينية مكفولة شرعًا، وهى شرط من شروط الإيمان، وهى ملجأ فى الوقت ذاته للمتشككين والمرتابين فيما يعتقدون، ويتضح ذلك فى قوله «وبعد، فهذا الكتاب يحوى اجتهادًا دينيًا خطيرًا على صغر حجمه، ويبين أن الحرية الدينية فى الإسلام عامة، فى دعوة غير المسلم إليه، وفى دعوة من أسلم ثم ارتد». تعالوا معًا نقرأ ما قاله عبدالمتعال الصعيدى.. وهى كلمات وإن كُتبت منذ عقود فإنها لا تزال صالحة القراءة الآن ربما أكثر من أى وقت مضى.

جزاء المرتدين فى القرآن

الله ذكر من يرتدون عن الإسلام فى مواضع كثيرة من القرآن، فلم يذكر فى جزائهم إلا حبوط أعمالهم، وما يجازون به فى الآخرة على ردتهم، فقال تعالى فى الآية ٢١٧ من سورة البقرة: «ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»، وقال تعالى فى الآية ٥٤ من سورة المائدة: «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه»، وقال تعالى فى الآية ١٠٦ من سورة النحل: «من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم»، وكل هذا لا يذكر الله تعالى فيه إلا حبوط الأعمال وعقاب الآخرة لمن ارتد، فلم يذكر فيهم قتلًا ولا قتالًا ولا نفيًا من الأرض ولا غير هذا من وسائل الإكراه، فإذا قيل إن القتل والقتال ورد فى الكفار وهم منهم، قيل إن القتل والقتال إنما ورد فى الكفار الذين يقاتلوننا كما سبق، والمرتدون مثلهم فى ذلك سواءً بسواء، فإذا قاتلونا بعد ردتهم قاتلناهم، وإذا لم يقاتلونا دعوناهم إلى العودة إلى الإسلام بالجدال ونحوه مما يدخل فى الدعوة بالسلم. وإن الأمر ليتضح بأكثر من هذا إذا قابلنا بين خروج المرتدين عن الجماعة من غير قتال وخروج بعض المؤمنين عليها بقتال، فإن الله تعالى ذكر خروج الأولين فيما سبق من غير أمر بقتالهم؛ لأن خروجهم عن الجماعة بالردة لا يلزم أن يكون معه قتال لها، أما خروج بعض المؤمنين عليها بقتال فقد ذكره مقرونة بالأمر بقتالهم، فقال تعالى فى الآية ٩ من سورة الحجرات: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين»، فدل هذا على أن قتال من يخرج على الجماعة إنما يكون إذا خرجوا بقتال، فيقاتلون على قتالهم مرتدين كانوا أو مؤمنين عاصين، فإذا كان خروجهم من غير قتال فإنهم لا يقاتلون ولو كانوا مرتدين، وهذا يكفى فى حمل ما ورد من الأحاديث فى قتال المرتدين وقتلهم على المرتدين المقاتلين؛ لأن القتال فى الإسلام إنما شرع لحماية الدعوة، ولم يشرع لحمل الناس بالإكراه عليها، وهذا أصل إذا صح أنه من أصول الإسلام، ويجب أن يصح، فإنه يجب أن يؤخذ به فى الكافر الأصلى والمرتد، ويجب أن يحمل عليه ما يخالفه كشأن غيره من الأصول؛ لأنها قواعد كلية ثابتة بيقين، فيجب أن يحمل عليها ما يخالفها من الفروع بضرب من ضروب التأويل.

رد تسوية ابن حزم بين المرتدين والمحاربين

ذكر ابن حزم فيما نقل عنه الشيخ عيسى منون أنه لو صح القول بأن المرتد يستتاب أبدًا ولا يقتل لبطل الجهاد جملة، لأن الدعاء كان يلزم أبدًا مكررًا بلا نهاية، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلًا، وليس دعاء المرتد، وهو أحد الكفار، بأوجب من دعاء غيره من الكفار الحربيين، فسقط هذا القول. ولا يخفى ضعف هذا من ابن حزم، لأن الجهاد كما ذكره الفخر الرازى فيما سبق مأخوذ من بذل الجهد، وهو كما يكون بالسيف يكون باللسان وبغيره من الطرق، فقد يكون بإظهار الحجة تارة وبترك الرفق ثانيًا وبالانتهار ثالثًا، إلى غير هذا مما ذكره. ولا شك أن صاحب ذلك المذهب يقول بالاستتابة كالجمهور، بل يقول بإكراه المرتد بالحبس فيما ذكره ابن حزم فيما سبق، وهذه الاستتابة وهذا الحبس من الجهاد الذى ذكره الفخر الرازى، فلا يصح ما ذكره ابن حزم من أنه لو صح ذلك القول لبطل الجهاد جملة، وقد أُخذ ابن حزم فى هذا من تسويته بين المرتدين والكفار الحربيين، والحق أن الكفار الحربيين يقاتلون بالسيف كما يقاتلون، أما غيرهم من الكفار المسالمين فلا يقاتلون أصلًا، وإنما يجاهدون بالدعوة إلى الإسلام بالتى هى أحسن، ولا فرق فى الكفار المسالمين بين الكفار الأصليين والمرتدين عن الإسلام، وكذلك لا يبطل الجهاد على قولى بأن المرتد لا يكره على الإسلام بقتل أو حبس، لأنى أوجب مع هذا دعوته إلى الإسلام بالتى هى أحسن، فإن أجابنا كان لنا أجر المجاهدين باللسان، وإن لم يجبنا كان لنا أجر هذا الجهاد أيضًا وكان عليه عقاب الله تعالى فى الآخرة.

إرجاع الاستتابة الدائمة للمرتد إلى ترك إكراهه

إنى أرى أن ما ذكره ابن حزم من أدلة من ذهب إلى أن المرتد يستتاب أبدًا ولا يقتل تدل على أنه لا يحبس عنده أيضًا كما لا يقتل، لأنه روى من أدلته على رأيه من جور النبى، صلى الله عليه وسلم، وليس فى هذا الخبر أنه أكره على الرجوع عن ردته بقتل أو حبس، وكذلك روى من أدلته ما كان من النبى، صلى الله عليه وسلم، مع المنافقين الذين ارتدوا بعد إسلامهم، ولم يكن المنافقون يؤخذون بقتل أو حبس، ولم يرد فى أدلتهم ذكر للحبس إلا فيما استدلوا به من إنكار عمر لقتل بعض المرتدين، وقوله فى قتل حجينة وأصحابه: «لو أتيت بهم لعرضت عليهم الإسلام فإن تابوا وإلا استودعتهم السجن». وقوله فى مرتد آخر: «ويحكم، فهلا طينتم عليه بابًا وفتحتم له كوة فأطعمتموه كل يوم منها رغيفًا، وسقيتموه كوزًا من ماء ثلاثة أيام، ثم عرضتم عليه الإسلام فى الثالثة، فلعله أن يرجع، اللهم إنى لم أحضر ولم آمر ولم أعلم». وهذا إن دل على شىء عند من استدل به على أن المرتد يحبس عنده ثلاثة أيام، فإنه يدل على أن المرتد يحبس ثلاثة أيام عنده أى عمر، ثم يطلق من السجن ولا يقتل، لأنه لا يقول بقتل المرتد، وقد يكون هذا الحبس عنده على سبيل الجواز لا الوجوب، لأن ما ورد عن عمر لا يدل على وجوب الحبس.

وقد ذكر الشيخ عيسى منون بأن عمر فى الرواية الأولى لم يبين غاية سجن المرتد: هل يسجن مدة معينة، فإن لم يتب بعدها يقتل، أو يخرج من السجن من غير قتل، أو يسجن مؤبدًا فلا يخرج من السجن إلا أن تاب؟ كل محتمل. ثم ذكر أن هذه الرواية المطلقة تحمل على الرواية المقيدة بأن الحبس ثلاثة أيام، وأن هذا يدل على أن عمر يرى وجوب الاستتابة وإمهاله ثلاثة أيام مع سجنه فيها، فإن تاب وإلا قتل، ولكن صاحب ذلك القول لم يرَ فى الرواية المقيدة ما رآه الشيخ عيسى منون، بل رأى أنها تدل له أيضًا على أن المرتد لا يقتل، وقد ذكر الشيخ عيسى منون أن الرواية المطلقة تحتمل أن يسجن مدة معينة ثم يخرج من غير قتل، فلتكن الرواية المقيدة مُعينة لهذا الاحتمال، نعم قد ورد فى بعض الروايات عن عمر «فإن تاب قبلتم منه، وإن أقام كنتم أعذرتم إليه» فإن الإعذار إليه يجوز أن يكون معناه قطعتم عنه العذر فى قتلكم له، وبهذا أخذ من نسب إلى عمر أنه يرى استتابة المرتد ثلاثة أيام ثم يقتل، ويجوز أن يكون معناه أعذرتم فيه، أى بلغتم الغاية فى العذر من التقصير فى استتابته من غير لجوء إلى قتل، وبهذا لا يكون فيه إقرار لهم على قتلهم له، ويؤيد هذا أن إمهاله عند من يرى إمهاله ليس لقطع العذر فى قتله، لأن قتله واجب عنده فلا يلتمس له عذر، وإنما يمهل عنده لعله أن يرجع، كما صرح به فى بعض الروايات، وبهذا كله يرجع مذهب من يرى أن المرتد يستتاب أبدًا ولا يقتل إلى مذهبى فى عدم إكراهه بقتل ولا حبس، ولا تصح دعوى ابن حزم أنه يرى إكراه المرتد بالحبس، ولا دعواه الإجماع على إكراه المرتد بالقتل أو الحبس.

رد تسوية الشيخ عيسى منون بين المنافقين والمحاربين

ذكر الشيخ عيسى منون فى تغاضى النبى، صلى الله عليه وسلم، عن المنافقين أمرًا آخر غير ما ذكره ابن حزم، فذكر أنه كان فى بدء الإسلام يتغاضى عما يحصل منهم من إيذاء، حتى لا يعرف أنه يقتل أصحابه، فتنفر الناس عن الدخول فى الإسلام، وكان يرجو أن يهديهم الله إلى الإيمان كغيرهم، ويعاملهم معاملة المؤمنين، ويصلى على من مات منهم، ولما استقر الإسلام وظهر أَمَره الله بجهادهم كمُظهرى الكفر، فقال تعالى: «يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين» «التوبة ٧٣» ونهاه عن الصلاة عليهم، فقال تعالى: «ولا تُصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره» «التوبة ٨٤»، ثم لخص بعد هذا ما ذكره ابن حزم فى أمر المنافقين والرد على من استدل به على أن المرتد لا يقتل. ويكفى فى رد هذا على الشيخ عيسى منون ما سبق من تفسير الفخر الرازى لجهاد المنافقين، فلم يكن جهادًا بالسيف كجهاد غيرهم، وبهذا يكون الذى تغير من أمرهم بعد استقرار الإسلام واشتداد أذاهم فى غزوة تبوك إنما هو ترك مُلاينتهم، فأخذوا بالغلظة فى القول، ومنعت الصلاة عليهم بعد موتهم، وبقيت دماؤهم مصونة، كما كانوا قبل ظهور ذلك منهم، لأنهم لم يصلوا إلى الخروج بالسيف على جماعة المسلمين، وهو الذى يستباح به دماء من يخرج على جماعتهم، ولا شك أن هذا لا ينافى مذهب من قال إن المرتد يستتاب أبدًا ولا يقتل، ولا مذهبى فى أن المرتد لا يكره على الإسلام بقتل ولا حبس، بل يدعى إلى الإسلام بالتى هى أحسن، ولا يكون هناك عقاب عليه إلا عقاب الآخرة.

الفرق بين المرتدين والخوارج

وقد ذكر الشيخ عيسى فى الرجل الذى جور النبى، صلى الله عليه وسلم، فأخبر عنه بأنه رأس الخوارج، ولم يعاقبه بشىء، أن هذا كان قبل أن يستقر الإسلام، فكان الحال داعيًا للتألف، لئلا ينفر الناس عن الإسلام، ولهذا ذكر البخارى حديثه تحت ترجمة «باب ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا ينفر الناس»، وقد صح عن أبى سعيد الخدرى راوى هذا الحديث أن النبى، صلى الله عليه وسلم، بعد أن استقر الإسلام بعث إلى هذا الرجل على بن أبى طالب ليقتله فلم يجده. وهذا من الشيخ عيسى منون غفلة عن معنى الخوارج، لأنهم الذين يخرجون على إمام المسلمين ويرفعون السيف على الجماعة، وهذا الرجل لم يكن من الخوارج بهذا الوصف، وإن كان رأسهم، لأنه لم يفعل إلا أن جور النبى، صلى الله عليه وسلم، ولم يخرج عليه بالسيف، ولهذا لم يعاقبه بشىء على تجويره له، وأما الخوارج فإنهم يقاتِلون الجماعة فيقاتَلون كما يقاتلون، وحينئذ لا يكون ترك قتل ذلك الرجل للتألف، بل لأنه اقتصر على التجوير ولم يفعل ما فعل الخوارج الذين يخرجون من ضئضئه، وهذا معنى كونه رأسهم، وليس معناه أنه كان رئيسهم عند خروجهم، لأنهم لم يظهروا إلا فى خلافة عثمان، رضى الله عنه، أما هو فكان على عهد النبى، صلى الله عليه وسلم، وهذا إلى أن ذلك الرجل قد ارتد عن الإسلام بتجويره للنبى، صلى الله عليه وسلم، أما الخوارج فكانوا من بغاة المسلمين، ولم يرتدوا بخروجهم عن الإسلام، وبهذا يستقيم الاستدلال بترك قتله له على أن المرتد لا يقتل، كما يستدل بترك إكراهه على الرجوع إلى الإسلام، على أن المرتد لا يكره على ترك ردته، وأما رواية أبى سعيد الخدرى فإنها غير صحيحة، وقد ذكر ابن حزم أنه جاء فى هذا الخبر من طريق لا يصح أنه، عليه السلام، أمر أبا بكر وعمر بقتله فوجداه يركع ويسجد فتركاه، ثم أمر عليًا بقتله فمضى فلم يجده، وأنه، عليه السلام، قال: «لو قتل لم يختلف من أمتى اثنان»، قال ابن حزم: «وهذا لا يصح أصلًا، ولا وجه للاشتغال به، ولا شك أن الشيخ عيسى منون قد اطلع على هذا ولم يذكره، لأنه يريد أن يثبت أن ذلك الرجل كان حكمه القتل، وأن النبى، صلى الله عليه وسلم، تركه للحكمة التى ذكرها، فلما انتهى أمرها أرسل إليه عليًا ليقتله فلم يجده، وليس هذا فى شىء من الأمانة العلمية، ولكن الجمود وأصحابه لا يعرفون شيئًا من هذه الأمانة، فإنه كان من واجب الأمانة أن يذكر رأى ابن حزم فيما روى عن على، رضى الله عنه.

السرية والجهرية فى النفاق

على أن ابن حزم لم يسعه فى بعض الأخبار إلا أن يسلم بأن النبى، صلى الله عليه وسلم، كان يعرف هو وأصحابه بعض المنافقين، كما فى حديث محمود بن لبيد، فإنه ذكر فى الرد عليه أولًا أنه منقطع، ثم قال: «ومع هذا، فإنما فيه أنهم كانوا يعفون المنافقين منهم، وإذ الأمر كذلك فليس هذا نفاقًا، بل هو كفر مشهور، وردة ظاهرة، وهذا حجة لمن رأى أنه لا يقتل المرتد. وهذا فيه اعتراف بأن ذلك القول الذى يرد عليه ليس كما ذكر أولًا من أنه لو صح لبطل الجهاد جملة، لأن الدعاء كان يلزم أبدًا مكررًا بلا نهاية، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلًا، إلخ. فإنه هنا يكاد يسلم بأن له وجهًا من الدليل يمكن أن يعتمد عليه، فلا يصح إنكاره إلى ذلك الحد الذى يذهب فيه إلى أنه لا يصح أن يقوله مسلم، وإنما هذه مبالغة منه على عادته فى الرد على المخالفين، حتى إنه لم يسلم من لسانه الأئمة الأربعة الذين يدين بمذاهبهم جمهور المسلمين، ولا يخفى أن ما ذكره من أنه إذا عرف ما عليه المنافقون، فإنه لا يسمى نفاقًا يخالف ما ذكره فيما سبق من طريق البخارى عن حذيفة قال: «إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كانوا حينئذ يسرون، وهؤلاء يعلنون»، فإن هذا صريح فى أن المنافق لا يلزم أن يكون مجهولًا، لأن الحقيقة أن المنافق هو الذى ينطق بكلمة الإسلام فقط، ولكنه قد يظهر منه ما يدل على أن نطقه بها لا يصل إلى قلبه، فيعرف به أنه منافق لا يوافق باطنه ظاهره، ولكن نطقه بالإسلام يمنع من التسوية بينه وبين الكافر المحارب، فلا يقتل ولا يقاتل على ما يظهره، مما يدل على نفاقه، لأنه مع هذا يسالم ولا يجاهر بالعداء كالمحارب، وإذا كان ذلك هو شأن القول بالاستتابة الدائمة أخيرًا عند ابن حزم، فليكن هذا شأن قولى بعدم إكراه المرتد بقتل أو حبس، لأنه كما سبق لا يكاد يكون هناك فرق بين القولين: قول من يرى الاستتابة الدائمة، وقولى بعدم إكراه المرتد.