رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مثقف مهموم بمعركة الوطن.. «جمال الغيطاني» وبطولات المصريين على خط النار

جمال الغيطاني
جمال الغيطاني

«كان مُهدداً، وكانت عليه حراسة، وينام وبجواره مسدس، وأحياناً كان يتم تهديده بأولاده، وهو لم يدع لا بطولة ولا قال ذلك»، هكذا وصفت الكاتبة ماجدة الجندي حال زوجها الراحل جمال الغيطاني في حكم تنظيم الإخوان، الذي تحل ذكرى ميلاده اليوم، 9 مايو 1945.

 ربما لو قرأ العبارة شخص لا يعرف مهنة الراحل لاعتقد أنه في مواجهة مع مقاتل بالقوات الخاصة، غير أنه بالفعل كان مقاتلا، لكن بالكلمة التي رصدت تاريخا عاشه الغيطاني على الجبهة مراسلا حربيا في بداية حياته الصحفية، وظلت الكلمة سلاحه في سنواته الأخيرة ضد تنظيم الإخوان الإرهابي متجاهلا أي تهديد لحياته، فالكاتب الذي قضى حياته مقاتلا على الجبهة، بداية من المجموعة 39 وبطلها الشهيد إبراهيم الرفاعي، لن يخشى مجموعة من المرتزقة.

 - شهد حرب أكتوبر وعبور قناة السويس

في عام 1969، عمل جمال الغيطاني مع مؤسسة “أخبار اليوم” كمُراسل حربي، خلال فترتي حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، على الجبهتين المصرية والسورية، كما استطاع أن يُرافق الجنود على الجبهة أثناء عبور قناة السويس، يوم السادس من أكتوبر، فوثق عملية العبور كمُراسل حربي، وكان للكثير من تقاريره على الجبهة أثر في الروح المعنوية للجنود، والجبهة الداخلية أثناء الحرب، واعتُمدت تلك التقارير مرجعًا للحدث فيما بعد.

كما زار "الغيطاني" بعض مناطق الصحراء في الشرق الأوسط، مثل شمال العراق عام 1975، ولبنان عام 1980، والجبهة العراقية خلال الحرب مع إيران (1980-1988)، ولم يكن جمال الغيطاني مُراسلًا حربيًا تقليديًا، ينقل البيانات العسكرية الرسمية إلى الصحف، بل كان مثقفًا مهمومًا بمعركة وطنه، ينقل بأسلوب إنساني رسائل الجنود من قلب المعركة.

 

- الالتحاق بتدريبات المجموعة 39 قتال

كتب "الغيطاني" عدة تحقيقات تحت عنوان “الجندي المصري على خط النار”، تناولت بطولات الرجال الذين تجمعوا من مختلف ربوع مصر، وقت المعركة، وكيف تحول الفلاح والعامل والطبيب والمهندس إلى مُقاتل، يُضحي بروحه من أجل وطنه، وأشاد الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، بهذه التحقيقات.

ووفقًا لوكالة أنباء الشرق الأوسط، لم يكتف "الغيطاني" بعمله الصحفي، بل أصر على الالتحاق بتدريبات المجموعة "39 قتال" بقيادة العميد إبراهيم الرفاعي، صاحب الدور الهام في مواجهات منطقة "الدفرسوار" قبل استشهاده.

وكانت هذه الفترة وما بها من تجارب، بمثابة الإلهام، الذي دفع "الغيطاني" لإنتاج رواية "الرفاعي"، التي روت سيرة العميد أركان حرب، إبراهيم الرفاعي، المُلقب بـ "أسطورة الصاعقة المصرية"، و"أسد الصاعقة"، قائد المجموعة "39 قتال"، تلك المجموعة الاستثنائية في تاريخ العسكرية المصرية، والتي قُدِر لجمال الغيطانى، أن يُعايش أفرادها، وأعمالهم القتالية.

 

- نجل الغيطاني و الشهيد منسي

وكما كان العميد إبراهيم الرفاعي، مُلهمًا استثنائيًا في حياة جمال الغيطاني، كان العقيد أحمد منسي، الذي لقي مصرعه في هجوم إرهابي على كمين البرث، بمدينة رفح، في 7 يوليو 2017، صديقًا استثنائيًا في حياة نجله "محمد".

فبعد ساعات من استشهاد العقيد أحمد منسي، نشر محمد الغيطاني نجل الأديب، وصديق "منسي"، عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، صورة إهداء كتبه لـ “منسي” على كتاب “المصريون والحرب”، للأديب جمال الغيطاني، وكان “محمد” قد أهدى الكتاب لـ "منسي"، خلال اللقاء الأخير الذي جمع بينهما، قبل 10 أيام من استشهاده، وكتب محمد الغيطاني، مُعلقًا على هذه الصورة “فرح أحمد جدًا بالكتاب، وتشرف اسم أبويا إن أحمد اصطحب كتابه عن أبطال أكتوبر، الصادر عام 1974، في شدة القتال الخاصة به”.

وصرح محمد الغيطاني، لموقع “Extra News” أن “منسي” كان قد قرأ رواية “الرفاعي” لوالده من قبل، كما أوضح أن صلة الأديب جمال الغيطاني بالجيل الجديد من ضباط القوات المسلحة، لم تقتصر على الشهيد أحمد منسي، بل أكد أن صلة والده بالجيش لم تنقطع أبدًا؛ حيث كانت أسعد لحظات حياته وهو وسط أبناء الجيش، وكانت آخر مناسبة حضرها قبل وفاته، مشاركته في حفل تخرج الدفعة 109 حربية.

 

- وجود على الجبهة شكل وجدانه

شكلت الجبهة وجدان الغيطاني، ونحتت كلماته المنشورة، فكانت في أغلبها تدور حول الشخصية المصرية المقاتلة، سواء على الجبهة، أو في الحياة المعيشة، وتعددت كتابات الغيطاني حول ذلك العالم، في محاولة لسبر أغوار الشخصية المصرية العظيمة، وحرص الغيطانى فى كتاباته من الجبهة على تدوين بطولة الإنسان المصرى ممثلا فى الجندى المقاتل، الذى تعرض عقب 1967 لحرب نفسية مكثفة لنزع الثقة وتصوير المصريين باعتبارهم شعبا لا يجيد القتال، فإن أجاد الفن والحضارة، فإن الأمر لا ينطبق على قدرته على درء العدوان، وهو ما حرصت إسرائيل والداعمون لها على تكريسه بشكل ممنهج لنزع الثقة وإحباط أى محاولة لتحرير الأرض.

وهذا الأمر جعل الغيطانى يحرص على أبراز بطولة الرجال ممن جاءوا من مختلف ربوع مصر، وكيف يتحول ذلك الفلاح أو العامل أو المهنى أو الطبيب أو المهندس من إنسان عادى، إلى مقاتل. من تلك الكتابات، كتابه "على خط النار.. يوميات حرب أكتوبر".

ويتضمن الكتاب جانبا من رسائل الغيطانى الصحفية التى أمد بها جريدة "الأخبار" عندما عمل مراسلا عسكريا على الجبهة خلال حرب الاستنزاف، ثم حرب أكتوبر، فى الفترة ما بين عامى 1969 و1974 والتى رصد فيها الأحداث والتطورات العسكرية على الجبهة.

- إبرازه لبطولات أبناء مصر 

نجح الغيطاني من خلال رسائله الصحفية فى إبراز بطولات الرجال ممن جاءوا من مختلف ربوع مصر، واسترعت هذه الرسائل انتباه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذى أشاد بأول تحقيقات الغيطانى عن "الجندى المصرى على خط النار" وكان ذلك خير داعم للغيطانى كمراسل عسكرى.

وقد توحد الغيطانى مع عمله حتى أنه أصر على الالتحاق بتدريبات المجموعة 39 قتال بقيادة إبراهيم الرفاعى والتى أهلته لعبور القناة فى حرب الاستنزاف.

يشتمل الكتاب على ثلاثة فصول: فصل لرسائل فترة حرب الاستنزاف، ثم فصل عن المصرى على خط النار، ويتناول أحوال الجنود والضباط ولسكان محافظات القناة، ويتناول الفصل الأخير بعض رسائل الأعمال العسكرية على الجبهة مع العدو الإسرائيلى أثناء حرب أكتوبر.

 

- المصريون والحرب

في كتابه "المصريون والحرب.. من صدمة يونيو إلي يقظة أكتوبر" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، يشير جمال الغيطاني إلي أن مصدر حملات التشويه ضد الإنسان المصري بشكل عام والمقاتل المصري بشكل خاص العدو الإسرائيلي، لأن تشويه المقاتل المصري باعتباره طليعة الكفاح ضد المستعمر المستغل يؤدي إلي تشويه الإنسان ثم تشويه مصر ذاتها٬ لكن مكونات الوطنية المصرية، والحضارة التي تحرك المصري هي التي تحسم الأمو، وتصد الدعايات المضادة وتمنعها، وتحولها إلي وقود يلهب طاقة النضال.

ويذهب "الغيطاني" إلي أنه ومن خلال وقائع التاريخ المدون، مكتشف حقيقة موضوعية مهمة، وهي أن المقاتل المصري أقدم من حمل السلاح في التاريخ البشري٬ فالحضارة المصرية تمثل فجر الإنسانية.

ومن هذه الخطابات التي أدرجها "الغيطاني" في كتابه لأحد المقاتلين:"هنا فوق سيناء يجود أغلي أبناء مصر بأثمن ما يملكون، بأعمارهم، هنا يضحي زهرة شباب مصر بأثمن ما لديهم، كل معركة هنا تشهد حوادث ترقي إلي مستوي المعجزات، هنا ينفض الشعب آلامه وجراحه، عبر مخاض وعر، قاس، وطويل".

 

- تسجيل تضحيات المجموعة 39 في راوية الرفاعي

وفي واحدة من أروع قصص البطولة في صفحات النضال الوطني، والتي لاتزال مخلدة في التاريخ الحربي المصري، وهب الكاتب جمال الغيطاني، قلمه، ليسجل تضحيات المجموعة 39 قتال، والتي أسسها وكان قائدا لها العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي، في روايته الشهيرة "الرفاعي".

تتناول الرواية بطولات العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعى، ورفاقه بالمجموعة 39 قتال، والتي تعد مجموعة استثنائية فى تاريخ العسكرية المصرية، والتى قدر للكاتب جمال الغيطانى، أن يقترب منها ويعايش أفرادها وأعمالهم القتالية عن قرب فى فترة صعبة، وتحكى عن الرفاعى ورفاقه، التى تشبه حكاية الأبطال الذين قاموا بهذه الملحمة الكبرى.

و 39 قتال هي مجموعة قوات خاصة أنشأت عقب نكسة يونيو 1967 تحت قيادة الشهيد إبراهيم الرفاعي، وتألفت من مزيج من قوات الصاعقة البرية والبحرية واختار الرفاعي رجاله من المشهود لهم بالكفاءة والشجاعة.

وبدأ تكوين المجموعة بجماعة صغيرة من ضباط الصاعقة المعروفين بقدراتهم القتالية العالية، ثم تطورت تلك الجماعة إلي فصيلة، وبتعدد العمليات تطورت إلي سرية نحو 90 فردا ما بين ضابط وصف وجندي، ثم تطورت السرية إلي تشكيل أطلق عليه المجموعة 39 قتال. 

وفي حرب أكتوبر، ظلت هذه المجموعة تقاتل على أرض سيناء منذ بدأ العمليات وحتى شهر نوفمبر، وذلك من رأس شيطان حتي العريش ومن شرم الشيخ حتي رأس نصراني، وفي سانت كاترين و‌ممرات متلا بواقع ضربتين إلى ثلاثة في اليوم بإيقاع أذهل مراقبي الاستخبارات الإسرائيلية لسرعته وعدم افتقادهم للقوة أو العزيمة رغم ضغوط العمليات.

 

- حكايات الغريب

من أبرز الأعمال الفنية المأخوذة عن أعمال جمال الغيطاني الأدبية، فيلم "حكايات الغريب". وهو عن قصة قصيرة للكاتب جمال الغيطاني، وعرض الفيلم عام 1992، من إخراج إنعام محمد علي، وكتب السيناريو والحوار له السيناريست محمد حلمي هلال.

ودارت أحداث الفيلم خلال الفترة التي أعقبت هزيمة 67 وحتى انتصار أكتوبر 1973، من خلال مواطن يدعى عبدالرحمن يشعر بروح من الانهزامية واليأس التي نتجت عن الهزيمة أمام العدو، والتغيرات التي حدثت للمجتمع المصري بعد قرار العبور ومشاركة العديد من المواطنين لقواتهم المسلحة لمواجهة الاحتلال واسترداد الأرض والكرامة.

وقصة "حكايات الغريب" منقولة عن قصة حقيقية لسائق بمؤسسة صحفية، هو عبدالعزيز محمود والذي استشهد في فترة حصار السويس، والتي وثقها الغيطاني حين كان مراسلًا حربيًا في الفترة بين 1969 و1973.

وقال الأديب الكبير الراحل جمال الغيطاني، في مجموعته القصصية المعنونة باسم «حكايات الغريب»، إنه في الثاني من فبراير 1974 قام رئيس العهدة بالمؤسسة المعتمدة للتوزيع بكتابة مذكرة لعرض موقف السائق عبدالرحمن محمود، ذلك الذي دخل في صباح 23 أكتوبر 1973 إلى السويس وهو يقود سيارة نقل فورد موديل 1956 مُحملة بصحف وكتب ومجلات لنقلها إلى السويس، وهو أكثر سائقي المؤسسة خبرة ومهارة في الطريق المزدحم بالعربات العسكرية والمنحنيات.

لكن الغيطاني، يقول إن كل الأخبار عن عبدالرحمن محمود انقطعت في 24 أكتوبر، أحدًا لم يعرف موقف السيارة والبضاعة، حتى اليوم نفسه أحدث فجوة في دفاتر العهدة.

وأضاف، إنه في الثالث من فبراير بعد تفكير مشترك صدر قرار بتشكيل لجنة تسافر إلى السويس لتقصي الحقيقة حول عبدالرحمن والبضاعة، وعقد اجتماع جرى فيه مناقشة طرق التحقيق، وكان هناك ملف أزرق يضم كل المعلومات عن عبدالرحمن.

 

- كاتب بدرجة مقاتل

بروح المقاتل وقلم الصحفي، سجّل الكتاب الراحل جمال الغيطاني ما وراء التجربة، الحرب، التي برزت فيها عظمة الشخصية المصرية، واستطاع من خلال إبداعه أن يكتب الخلود لتلك البطولات، التي ألهمت عزيمة العديدين من الذين قرأوا تلك الحكايات.

 

تحكي زوجة الراحل، الكاتبة الصحفية ماجدة الجندي، في حوار صحفي منشور:"ما تم توثيقه عندما تقرأه اليوم شىء يفوق الوصف، وعندما كنت أجمعه كان جسمى يقشعر، أولاً هو بدأ من حرب الاستنزاف، ودع جانباً فكرة أنه أول من وثق صعود أول طائرة فانتوم، وإغراق الغواصة الإسرائيلية «داكار»، لكن ما استوقفنى جداً هو الدقة الشديدة جداً فى تعامله فى الكتابة، يعنى وأنت تقرأ كأنك تشاهد فيلماً، وتسمع الأصوات وتشم الرائحة، وتلمس الأشياء، فهو لم يكن يترك تفصيلة واحدة، ويتضمن ذلك البعد الإنسانى العبقرى. 

 وهذا الفلاح الذى جاء من «الغيط»، ثم وقف وراء مدفع، وترى رحلة تطوره بكل تفاصيله، وهذا تراث عندما تقرأه تشعر أننا لا نعرف شيئاً عن حرب أكتوبر، ما لم يخرج هذا الإرث القوى للنور، لأنه أولاً ليس درساً مستفاداً فى الحرب فقط، ولكن لأنك تفهم من خلاله الإنسان المصرى، زى «الغريب» الذى تراه فى الشارع فتقول «ده هليهلى» ثم تفاجأ به بعد تدريبه أنه تحول لنموذج مختلف تماماً، وطبعاً كان فيه بعض فلاحين فى الإسماعيلية والسويس لم يهاجروا ورفضوا هذه الفكرة، وكان لديهم أرض، ربع فدان وتمن فدان، وعندما تذهب كتيبة تستقر فى مساحة أرض زراعية، وعن طيب خاطر تجد فلاحاً يزرع شجر زيتون يقلع الزيتون طواعية ليغطى به الدبابات".