رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أكذوبة الهوية».. كيف يؤدي صعود جماعات الإسلام السياسي إلى تأخر الدول؟

الإخوان
الإخوان

كشفت دراسة أجراها مركز تريندز للبحوث والاستشارات، عن مخاطر جماعات الإسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة الإخوان، وأنها تعد عائقاً نحو النهضة والتقدم، حين حولت سؤال النهضة الأول إلى سؤال للهوية وللمرجعية وللإيمان.

وأشارت الدراسة إلى أن هذا هو ما حدث منذ صعود تياراته لاستعادة الدولة والخلافة العثمانية في العصر الحديث على إثر سقوطها في عشرينيات القرن الماضي، وحتى الآن، حيث تتابعت درجات وموجات التطرف لتصل للمستوى الأكثر عنفاً والأكثر انغلاقاً مع الوقت، وظلت دولة الأمة- الخلافة طموحها وهدفها الوحيد.

واعتبرت الدراسة أن انتشار هذه الجماعات كان سببا في تأخرها في البداية عن مصاف الدول المتقدمة، باستثناء مصر التي كانت تحقق نهضة خاصة بهان، حيث كان دخل الفرد المصري كان سنة 1913 أعلى من نظيره الياباني، كما كان نصيبه من التجارة الداخلية ضعف الأخير، وشهدت مصر رابع شبكة سكك حديدية في العالم أقوى من تلك التي امتلكتها اليابان، آنذاك، وعرفت سابع دستور في العالم 

على الجانب الآخر، ومنذ عشرينيات القرن العشرين، بدأت جماعات الاسلام السياسي تنشط، مركزة على الدفاع عن الهوية والمرجعية، والشكل واللباس كعلامة عليها، ومدافعين عن الماضي وركوده في وجه أي تحديث فكري أو سياسي، وعجزت الحركات الإسلامية – التي نشأت منذ هذا التاريخ – عن إيجاد أرضية مشتركة بين الإسلام والحداثة، ليس على مستوى مبادئ الإيمان، أو الطقوس أو القيم المرتبطة بالدين، وإنما على مستوى الأدوار السياسية، والاجتماعية، والتشريعية التي نهض بها الإسلاميون في المجتمع، تلك الأدوار التي رُوج لها أنها جزء لا يتجزأ من جوهر الدين.

 تفترض هذه الدراسة أن تصور الإسلام السياسي لمفهوم الأمة تحديدًا، يفسر كثيرًا من مواقفهم تجاه الأوطان، ويشرح أسباب اتساع تأثيراتهم أممياً في بعض الفترات نحو بلدان ودول أخرى، وممارساتهم في إعاقة مسار النهضة العربية الحديثة، وفي إرهاق دول المنطقة ومجتمعاتها، لما احتوته هذه التصورات من أزمة وقصر نظر يعادي حركة التاريخ ويرهق منجزاته إن تحققت – كما سنوضح، لاسيما وأن هذه الجماعات وجماعة الإخوان المسلمين، يتحدثون عن الوطن باعتباره مرحلة ووسيلة نحو الخلافة ليس إلا.

ووفقا للدراسة، يعادي تصور الإسلام السياسي التاريخ ويرفض الصيرورة التاريخية والحقيقة الاجتماعية والسياسية، فقد كان من أركان بيعة "الإخوان"، حسبما يوصي مؤسس الجماعة حسن البنّا في "رسالة التعاليم" في توظيف الأمة لصالح الخلافة بقوله:"إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية بتحرير أوطانها وإحياء مجدها وتقريب ثقافاتها وجمع كلمتها حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة"

وهنا يصطدم تصور الأمة بمفهوم الوطن، وحضور غير المسلمين فيه. كما يتباين استعماليًا مع استخدام مفاهيم الدولة والوطن في العصر الحديث، مما يجعل ولاء عناصر الجماعة وتنظيماتها وارتباطاتها الدولية لغير الوطن أو الدولة، وهو ما كان محل التحفظ دائماً من كل الوطنيين والأنظمة على حد السواء.

ولفت الدراسة إلى أن الطرح الإسلاموي المعاصر في العصر الحديث، بدأ مقطوعاً ومنفصلاً عن أحداث التاريخ وتفاصيله وعن الواقع الحديث لدوله ومجتمعاته، وكان كثير من منظريه – مثل سيد قطب – يهربون من التاريخ وتفاصيله مركزين على العقيدة في تسويق وتمكين إيمانهم بأفكار الحاكمية أو الدولة الإسلامية أو الخلافة، والاستئناس – فقط – بمقتطفات تمجيدية عاطفية في الغالب.

ويبدو الاصطدام بين مفهومي الأمة والوطن لدى تيار الإسلام السياسي واضحاً، حيث يجعل هذا التيار الأمة هي الإطار الأوسع ويرفض مفهوم الوطن، فيما أن هذا الأخير يرتبط بمفهومي الجنسية والسيادة الوطنية في فضاء جغرافي سياسي محدد، حيث يُنتج المفهوم الأول قيمة المواطنة، فيما ينتج الثاني هوية تحمي حدود الوطن ومواطنيه. ويحصر الوطن بهذا المعنى تصور الأمة فيه، أو يجعله متدرجاً ويكون للوطن الأولوية الرئيسية فيه، مع عدم معاداته الروابط الثقافية أو الدينية الأخرى ما لم تكن ضداً أو خطراً على الوطن أو مواطنيه.

 وأضافت الدارسةأ أن فهوم الوطن مرتبط بالتعايش، وهو الثابت الآن في وعي الشعوب والمجتمعات، وقد استقر كانتماء وكهوية ليست متأخرة عن هويتها الدينية ولكن تستوعبها وتتصالح معها، وترفض الكراهية التي يروجها المتطرفون، من جماعات الإسلام السياسي والتطرف، داخل الأوطان ضد المختلفين دينيا أو فكريا، وبقي الوطن والدول الوطنية هي الحقيقة التي يعيشها العرب والمسلمون وتقبل التطوير والتقدم، وليس دعاوى الإسلام السياسي اللاتاريخية.

وكشفت الدراسة أن المتطرفين من جماعات الاسلام السياسي يريدون الحديث باسم المسلمين في كل مكان، وفي اتكائه على الرابطة الدينية دون سواها، ومبتلعًا مفاهيم كالشعب والوطن والسيادة وغيرها، فهو يصارع شركاء الوطن والمختلفين معه، دينياً أو فكرياً، رغبة في السيطرة عليه.

 كما يختزل الأصوليون التاريخ الإسلامي في الخلافة الواحدة، متجاهلين حضور الخلافات والممالك المستقلة فيه، حيث يختزلون تنوعاته الاجتماعية والطائفية والدينية في وحدة واحدة تحتكر الحديث باسم الأمة ذي الصبغة الدينية فقط.

تقديم الولاء لمصلحة الجماعات على الأوطان

برغم رفض الإسلام السياسي وخطابه لمفاهيم الوطنية والقومية العربية كما يفهمها أصحابها، إلا أنه حاول أسلمتها وتوظيفها، وذلك كجزء وتكتيك مرحلي يحقق أهدافه، فهو يستوعبها ويتجاوزها في آن واحد، فيكون الوطن والدولة الوطنية حلقة تقود للقومية التي يتم استيعابها في دائرة الأممية الإسلامية الأكبر ككل.

وهنا يبدو مفهوم الوطن قابلا للإزاحة أمام تصور الأمة الواسع، وأمام مصلحة الجماعة الأصولية والمتطرفة التي تتحدث باسمها، فتكون مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الوطن، وما تدعيه من مصلحة للأمة مقدماً على مصلحته كذلك.

ويمكن القول إن الوطن والدولة الوطنية- حتى تاريخه- لم تأخذ حقها من التمكين في أيديولوجيات الإسلام السياسي السني والشيعي على السواء، ومن هنا تتجاوز ولاءات وبيعات عناصر جماعة الاخوان المسلمين في مصر أو الإمارات أو غيرهما من الدول حدود هذه الدول، كما تتجاوز حدود وولاءات ميليشيات إيران حدود أوطانها، ليكون "حزب الله" مثلاً جزءا من إيران في لبنان وليس جزءا لبنانياً أصيلاً، كما صرح الناطق الرسمي باسم الحزب إبراهيم الأمين يوما ما: " نحن لا نقول إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران"

نزع الشرعية عن الأوطان والحكومات

كان توظيف تصور الأمة لدى تيار الإسلام السياسي أساساً من أجل حشد الجماهير، وتفعيل الولاءات والسلطة والدعاية الدينية، لكن الأهم والأخطر هو نزع الشرعية عن الأوطان وأنظمتها، من أجل التمكين لنموذجه الديني السياسي، أو استعادة الخلافة والدولة الإسلامية الواحدة التي تشمل الأمة الواحدة حسب تصوره.

ولأهمية تصور الأمة الأصولي وتقدمه، نجده مقدم على ما سواه في رسائل حسن البنّا، الذي يلح في أن يسبق الموقف من الوطنية، فيقول عن الفروق بين تصوره للأمة والوطنية تحت عنوان "حدود وطنيتنا": "ما وجه الخلاف بيننا وبينهم؟ هو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم"

ويرفض البنا أن تكون النهضة والتنمية غاية النضال الوطني في مرحلة ما بعد الاستقلال من المستعمر ويرى أن هناك دور آخر للجماعة المسلمة، هو مواصلة النضال من أجل هداية البشرية وسيادة الأرض، حيث يقول: "إن الوطنيين فقط، جل ما يقصدون إليه هو تخليص بلادهم، فإذا ما عملوا لتقويتها بعد ذلك اهتموا بالنواحي المادية كما تفعل أوربا الآن، أما نحن فنعتقد أن المسلم في عنقه أمانة عليه أن يبذل نفسه ودمه وماله في سبيل أدائها تلك هداية البشر بنور الإسلام، و رفع علمه خفاقاً في كل ربوع الأرض، لا يبغي بذلك مالا ولا جاهاً وسلطاناً على أحد ولا استعبادا لشعب، وإنما يبغي وجه الله وحده و إسعاد العالم بدينه وإعلاء كلمته، وذلك ما حدا بالسلف الصالحين رضوان الله عليهم إلى هذه الفتوح القدسية التي أدهشت الدنيا "

واختتم المركز قائلا: تعادي جماعات الاسلام السياسي مفاهيم الوطن والوحدة الوطنية، وهو ما يعبر عنه أيمن الظواهري بقوله: "إن تقديس الوحدة الوطنية ثمرة خبيثة من ثمرات سايكس بيكو التي قسّمت الأمة المسلمة لأسلاب متفرقة نهباً لتركة الدولة العثمانية، ثم عشّشت هذه السياسة الغازية المجرمة في عقولنا، حتى أصبحت صنماً مقدساً فيجب على المسلم طِبقاً لها في كل قُطر أن يتحد مع أبناء قطره وبلده حتى لو كانوا من أعدى أعداء الإسلام وأخبث خلق الله من الخونة وبائعي المبادئ والقيم

كذلك، لا يعتمد سيد قطب إلا وصف "الوطن الإسلامي" و"دار الإسلام" كتعبير عن علاقة الأمة، ويعتبر الرابطة الوطنية من العقائد المغايرة بل والمضادة للإسلام التي يراها تدعو للإحلال مكانه، وليست مقبولة في" الوطن الإسلامي" وأن على أصحابها أن يتحرجوا من ذكرها فيقول واصفاً لهم: " لم يعودوا يحجمون، أو يتحرجون، من التصريح بهذه الحقيقة: وهي أنهم إنما يقررون (عقائد)؛ ويريدون أخذ الناس بها في واقع الحياة؛ وأنهم يريدون إحلال هذه العقائد الاجتماعية أو الوطنية أو القومية محل العقيدة الدينية"