رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السياسة الخارجية الإيرانية تحت جهاز الأشعة

مساحة كبيرة من الرأي العام في الداخل الإيراني، نظرت إلى التسريب الصوتي لوزير الخارجية محمد جواد ظريف باعتباره، قنبلة تدميرية للمستقبل السياسي لمرشح التيار الإصلاحي المحتمل، وانفعل "التسريب" جاء على غير رغبة ظريف في وقت كان يتأهل وفق هذه الفرضية لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة.

أمام النفي المسبق لجواد ظريف نيته الترشح لمنصب الرئاسة، يذهب أصحاب هذا التفسير بأن القنبلة وإن خرجت باسم وزير الخارجية، لكنها بدت موجهة للتيار الإصلاحي برمته في ظل التنافس الحاد الذي يخوضه مع تيار المحافظين، المدعومين من الحرس الثوري بهدف السيطرة على مجمل المشهد السياسي الإيراني الداخلي.


الرئيس حسن روحاني أحد أقطاب تيار الإصلاح، بدا صمته الملحوظ عن التعليق على هذا الحديث المطول، الذي اشتمل على عديد من محطات وملفات السياسة الخارجية الإيرانية خلال سنوات مضت، له دلالة أقرب لاستشعاره أثر شظايا هذه القنبلة وهي تطاله شخصيا، لذا اكتفى بمجرد تسريح "سعيد ليلاز مهر آبادي" الذي أجرى الحديث مع ظريف، في وقت كان يشغل منصب مدير مركز الدراسات الإستراتيجية ومستشار للرئيس في نفس الوقت.

اعفاء الرجل من منصبه المقرب من دوائر صنع القرار وتعليق روحاني المقتضب الذي اقتصر على قوله، أن خروج هذه الأحاديث واذاعتها بشكل علني يضر بمصالح الدولة الإيرانية، يحمل في طياته غموض أقرب إلى عدم الرغبة في ضرب صلب ما جاء بها من عناوين صادمة.

عبر الإيحاء بموافقته الضمنية على أراء وتقييم وزير خارجيته، أو عبورا على الألغام الملقاة على قارعة الطريق تنتظر القدم التي ستزل بالضغط عليها، ويقينا لا يرغب الرئيس المخضرم الذي عاصر تلك الأحداث أن يقف في مرمى النيران المباشرة، حيث يكفيه ما أصاب تياره السياسي جراء تلك الواقعة المدبرة.


الانقلاب المفاجئ ضد جواد ظريف من قبل الإعلام الإيراني، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي والتغريدات الإيرانية، التي لم تترك وصفا سلبيا أو خارجا إلا ونعتت به الرجل بعد أن ظل لسنوات أيقونة للنجاح الدبلوماسي، وقت أن عاد إلى طهران بتوقيع الاتفاق النووي، يمثل تكشيرا قاسيا عن الأنياب القادرة في كل لحظة على تمزيق والتهام أي شخصية أي كان منصبه، أو وزنه داخل منظومة الحكم الإيراني وهو أمر مقصود وليس عفويا على الإطلاق. 

فما جاء ذكره بالحديث الذي تسرب في مضمونه الأبرز أن السياسة الخارجية الإيرانية تصنع وتحدد ثوابتها، خارج إطار مؤسسات الدولة بالنظر إلى الكثير مما قاله عن نفوذ "قاسم سليماني" وإدارته المباشرة لعديد من الملفات، بحجم التدخل في سوريا والانخراط في تثبيت دعائم النظام الحالي، وبدقة التدخل ومحاولة عرقلة انجاز الاتفاق النووي مع القوى الدولية، عبر الباب الروسي الخلفي. 

فتصوير أداء الدولة الإيرانية باعتبارها تلعب بعدة وجوه دبلوماسية واعتمادها لنمط غير مألوف في علاقاتها، كانت من الاتهامات الرئيسية التي وجهت لطهران طوال سنوات مضت، وجاء حديث ظريف ليس فقط ليؤكد هذا النمط بل وضع الأمر في عنق "الحرس الثوري"، حيث اعترف ظريف بأنه ظل يقوم بمهامه الرسمية وهو فاقد القدرة على الحسم الذي لا يوافق رغبات وخطط سليماني، وهي بالتبعية متمثلة في العمل السري والأذرع الموالية والأموال السوداء وغيرها مما يفهم من طيات الحديث الذي استغرق 7 ساعات كاملة!.


المثير أيضا أن  جواد ظريف بدا في التسجيل المسرب،وهو يشعر باستياء كبير من التدخل الواسع لقائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، في إدارة الشأن الدبلوماسي الإيراني من خلالما أقر به ظريف أنه كثيرا ما ضحى بأصول العمل الدبلوماسي لصالح "ساحة المعركة" بحسب تعبيره الذي استخدمه أكثر من مرة، مضيفا أنه لم يتمكن يوما من إقناع سليماني بأي من طلباته. 

وأثار التسريب جدلا واسعاحول هذه الآلية في العمل داخل الدولة الإيرانية، من خلال التناقض الواسع الذي عبر عنه ظريف ما بين العمل المؤسسي، والعمل الميداني الذي كانت كلمته تعلو في كل مرة رغم دقة القضايا المثارة حينئذ وبالنظر أيضا للمكانة الكبيرة التي كانت لسليماني في البلاد. وقد استلزم هذا الأمر الذي أثار عاصفة شعبوية ضد وزير الخارجية، أن يتقدم بأكثر من اعتذار عن فهم حديثه باعتباره طعنا في دور الرجل الذي ينظر إليه باعتباره بطل إيراني قومي، خاصة مع واقعة قتله على يد القوات الأمريكية التي صورته كانتصار كبير لها. 

من النماذج الشهيرة التي قصفت بالنيران في وجه ظريف حول هذا الجزء بالخصوص، كانت الإبنة "زينب سليماني" التي نشرت عبر حسابها على تويتر مؤخرا، صورة تظهر يد والدها في حادث اغتياله قرب مطار بغداد في يناير من العام 2020، مرفقة بتعليق من جملة واحدة "الكلفة التي دفعهاالميدان من أجل الدبلوماسية".

 تعليقا منها على المقارنات التي طرحها جواد ظريف أكثر من مرة خلال حديثه، واستلزم بعد نشرها بساعات أن يخرج ظريف ليذكر بأن "زينب" تعز عليه مثل أولاده، وأنه يقدر مشاعر محبي الشهيد البارز في محاولة منه لامتصاص حجم الغضب الهائل الذي يجابهه على مستوى الشارع الإيراني، مؤكدا أن الملاحظات التي أدلى بها لا تقلل من المقام والدور الذي لا غنى عنه للشهيد سليماني، مضيفا "لو كنت أعلم أن كلمة منها سيتم نشرها علنا، بالتأكيد لما كنت قلتها". 


هذا عن الجانب الشعبوي الذي من المفهوم ارتباطه بالنموذج الذي يمثله سليماني، من حيث دغدغة مشاعر الجمهور بما يظنونه يحققه لدولتهم من انتصارات، ومساحات من النفوذ رغم أنف القوى الكبرى والإقليمية ومن وراء ظهورهم.

 

لكن يظل حجم الانكشاف الكبير الذي جرى لمجمل السياسات الإيرانية الخارجية، على الأقل بدءا من العام 2011 وحتى الآن، وقد اعترف وزيرها أكثر من مرة وبكلمات تخلو من أي التباس، أنه في الجمهورية الإسلامية الميدان العسكري هو الذي يحكم، وذكر عشرات النماذج لما قامت به الدولة من التضحية بالدبلوماسية من أجل الميدان العسكري، حيث تظل هيكلية وزارة الخارجية ذات توجه أمني في أغلب ملفاتها، مقرا بصراحة لافته بأنه كوزيرللخارجية يعد نفوذه في السياسة الخارجية الإيرانية "صفر"!!.