رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسماعيل يس.. الطيبة والفن

رأيت الفنان الكبير إسماعيل يس مرة واحدة بالمصادفة، كان ذلك عام ١٩٦٤، فى شارع طلعت حرب، رأيته من جانب داخل محل سجائر ومشروبات ضيق ومستطيل. كان واقفًا ببالطو كمونى طويل، صامتًا ينتظر شيئًا من البائع. ولم تفارقنى صورة وجهه إلى الآن. أكاد أراه أمامى الآن وأنا أكتب. كان يرزح تحت جبل من الحزن، مثل إنسان وحيد، بلا أمل. 

ظللت واقفًا أتأمله من خارج المحل مذهولًا: أيعقل أن كل الضحكات التى أطلقها على مدى خمسين عامًا قد انقلبت دمعًا سيالًا داخله؟ فى الأعوام ما بين ١٩٥٢– ١٩٥٥ كان «سمعة» يمثل ستة عشر فيلمًا فى العام الواحد من شدة ما كان الناس يتلهفون على رؤيته! وكان أول من تبرع للمجهود الحربى عام ١٩٥٦، وآخر من نال تكريمًا. قدم معظم أعماله مع زميل رحلته أبوالسعود الإبيارى.

وفى الستينيات بدأ نجوم جدد فى الظهور: فؤاد المهندس، وأمين الهنيدى، وثلاثى أضواء المسرح، بينما كان «الإبيارى» يمنح لـ«سمعة» نفس المواضيع القديمة المكررة التى تجاوزها الواقع الاجتماعى، فلم يمثل سمعة ما بين ١٩٦٣ و١٩٦٥ سوى فيلمين «المجانين فى نعيم»، و«العقل والمال»، وتعثر فى فخ التكرار، وبدأت الأضواء تنحسر عنه وحلت لحظة الغروب التى تحل على كل الفنانين والأدباء العظام. فى تلك اللحظة رأيت «سمعة» واقفًا، صامتًا، عليه جبال من الحزن الأخرس، والعجز، والألم المكتوم. 

علامتان رئيسيتان امتاز بهما ذلك الفنان الكبير: أنه فى كل أعماله السينمائية أو المسرحية كان يسخر من نفسه وليس من الآخرين، من فمه الواسع، من عبطه، من ضعف حيلته، ولن تجد عنده مشهدًا واحدًا يصفع فيه أحدًا على قفاه ليثير الضحك الرخيص، كما فعل معظم نجوم الكوميديا ما عدا الريحانى. العلامة الثانية المهمة عند «سمعة» أنه طيب، كان يترك ذلك الانطباع بقوة، فهل للطيبة علاقة بالفن؟!

نعم. بل وعلاقة وثيقة جدًا، لأننا إذا حاولنا أن نفسر الطيبة فى الفن سنجد أنها أقرب إلى موقف الفنان من الحياة والبشر، إنه لا يحاكم أحدًا، لا يدين أحدًا، إنه طيب، والفن الذى يقدمه لا يحاسب، ولا يقسو، لكنه يحتضن جراح الآخرين. ربما لهذا تحديدًا قال شارلى شابلن عام ١٩٤٠ فى فيلم الديكتاتور: «ذكاؤنا صار وحشيًا قاسيًا.. إننا بحاجة إلى الطيبة والإنسانية أكثر من حاجتنا إلى العبقرية والذكاء». 

وللدقة فنحن بحاجة إلى أن تكون الطيبة ركيزة للعبقرية، وأظن أن هذا ما قصده «شابلن»، وقد كانت ملامح إسماعيل يس وروحه تفيضان بكل ذلك. وقد اتصلت رحلة عطاء «سمعة» ثلاثين عامًا من ١٩٣٥ حتى ١٩٦٥، وتألق منذ أن بدأ أول بطولة مطلقة له مع ماجدة فى فيلم «الناصح» عام ١٩٤٩، وقدم خلال رحلته الطويلة ٤٠٠ فيلم، و٣٠٠ مونولوج، وستين مسرحية! وحين غربت شمسه اضطر للعودة إلى العمل فى كباريهات صغيرة، وحينذاك صرح لإحدى المجلات قائلًا: «أنا أربعين سنة شغل وتعب.. كنت عامل زى الدواء للإنسان المهموم عشان أضحكه.. أنا أربعين سنة جهد ماخدتش شهادة تقدير ولا حتى ميدالية صفيح». 

فى ٢٤ مايو الحالى تكون قد مرت على وفاة ذلك الفنان الكبير تسع وأربعون سنة، ومازال قادرًا على أن يحرك الابتسامة وأن يبعث السعادة الغامرة فى القلوب.