رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كنز الكبار.. خطابات نزار قبانى ليوسف إدريس

كنز الكبار
كنز الكبار

صداقة لا تعرف الحدود جمعت بين أديب كبير، بحجم يوسف إدريس، وشاعر كبير بحجم نزار قبانى، وصلت هذه الصداقة للحد الذى جعل من إدريس مسئولًا عن توفيق نجل نزار فى القاهرة، فيوسف إدريس هو مَن قدم له أوراق الالتحاق بكلية الطب، وذلل له العقبات البيروقراطية، كأنه ابنه هو بالضبط، وربما لهذا وصف نزار قبانى يوسف إدريس بأنه «طفل جميل احترف الشقاوة والغضب».

وفى ذكرى رحيل «نزار»، ٣٠ أبريل ١٩٩٨، تنشر «الدستور» رسالة منه إلى يوسف إدريس أرسلها له بتاريخ ٢٤/٨/١٩٧٠، وتتابع قصة هذه الرسالة حتى وصولها لـ«يوسف».

 

 

«أخى يوسف: 

لا أزال أعيش فى ذكرى الساعات القصيرة، التى قضيناها معًا فى مطعم برج الحمام، نشرب العرق، ونشم رائحة الصنوبر، ونسمع من جارنا الشعر، الذى كتبه لخطيبته فى حين كانت خطيبته تجلس معنا نحن.. وتفكر فى إنهاء خطبتها.. معه.. بعد أن ثبت لديها أن طاولتنا مقنعة أكثر.

لم أتمكن من توديعك فى المطار لأننى كنت خارج بيروت.. فاغفر لى تقصيرى. كيف أنت، وكيف السيدة العزيزة رجاء، وكيف حال الأولاد، أتمنى أن تكونوا قد استمتعتم بإجازتكم التى كان نصفها مرضًا.. ونصفها الآخر حبسًا.

وصلت غادة وبشير أمس، ونقلت إلى غادة أخبار معاملة توفيق، التى توقفت بسبب وجود المسئولين فى الإسكندرية.

على أى حال إننى كبير الثقة بنفوذك واهتمامك. وأنا أرسل لك طيًا جدول علامات توفيق المعطى فى الجامعة الأمريكية مصدقًا من وزارة التربية اللبنانية، ووزارة الخارجية أو سفارة الجمهورية العربية المتحدة فى بيروت، وذلك بناء على طلبك، فأرجو أن تكون هذه الشهادة ذات قيمة قانونية تسمح لتوفيق بدخول الصف الأول من كلية الطب.

إننى آسف على الإزعاج، ولكنى أعرف شهامتك وأعرف أى إنسان كبير يسكن لى داخلك.

منى ومن بلقيس ومن توفيق أحلى مشاعر المودة لك وللسيدة رجاء وللصديق الأستاذ أحمد حمروش وزوجته، وبانتظار أخبارك، لك من أخيك حبه المقيم

الإمضاء: نزار قبانى»

 

استطاع يوسف إدريس أن يُلحق توفيق بكلية الطب جامعة القاهرة، ولكن توفيق أصيب بمرض نادر فى القلب، واصطحب يوسف إدريس «نزار» وابنه إلى الدكتور حمدى السيد نابغة أطباء القلب فى ذلك الوقت، على حد وصف الدكتور يوسف إدريس، وهناك يعرفون أن المرض نادر ولا علاج له فى مصر، ويأخذ نزار ابنه إلى لندن للعلاج واستأجر له منزلًا فى الريف الإنجليزى الساحر عسى أن يخفف الهدوء والجمال قسوة الألم، ولكن الابن مات فجأة بعد أن اشتدت عليه الآلام، ولم يبلغ ٢٤ عامًا، ورثاه نزار بقصيدة الأمير الخرافى:

«لأى سماء نمد يدينا

ولا أحد فى شوارع لندن يبكى علينا»

وواجه نزار فجيعة موت ابنه بمفرده فى بلد غريب لا يعرفه فيه أحد:

«أواجه موتك وحدى

وأحمل كل ثيابك وحدى

وألثم قمصانك العاطرات

واسمك فوق جواز السفر

وأصرخ مثل المجانين وحدى

وكل الوجوه أمامى نحاس

وكل العيون أمامى حجر

فكيف أقاوم سيف الزمان

وسيفى انكسر».

حزن يوسف إدريس حزنًا جمًا حين وصله الخبر، وكتب رسالة تقطر حزنًا وألمًا على نزار ونجله توفيق، وتحكى الرسالة حكاية توفيق كاملة منذ عرفه حتى ودّعه الوداع الأخير قبيل سفره للندن، ولأننا لم نستطع أن نلتقى بسبب فيروس كورونا، وقد حصلت الدستور علي نص الخاطابات من الكاتب الصحفى محسن عبدالعزيز وقد سبق نشر نص هذه الجوابات في ملحق جريدة الاهرام منذ ثلاث سنوات، ورغم أن الخطاب الذى منحته إيانا نسمة يوسف إدريس كانت أولى صفحاته مفقودة إلا أنه كان يقطر بأحاسيس الحياة والحب.

يقول إدريس فى خطابه الطويل لصديقه نزار قبانى:

«أتذكر يوم جئتنى يا نزار ومعك شاب جميل شامخ، ابنك الأول توفيق الذى لم أره فى زياراتى لك، إذ إن علاقتنا رغم تغويرها فى نفسى ونفسك، إلا أنها، كما كنا دائمًا نذكر، نضحك. أحدث علاقة لكلينا، فأنت آخر مَن عرفت شخصيًا من الكتاب والشعراء العرب، فكنت أعزهم ربما لذلك وربما لأن الإنسان لا يملك أمامك سوى التسليم، تطل منه بشخصك وصوتك الحنون والطفل الذى يهتف فرحًا للحياة وبالحياة ويقفز من ملامحك فجأة كلما فتحت فمك، شاعرًا أو محدثًا، لا يملك الإنسان إزاءك إلا أن وبلا حدود يحبك، حتى لو اختلف معك يحبك أكثر، فإنه كما يحس أنه اختلف مع أعز عزيز لديه، مع ابنه أو أبيه أو أمه، وأنه ارتكب، لا بد المعصية.

جئت بتوفيق لأحل معه مشكلة قبوله فى كلية طب قصر العينى، كليتى، وكانت هناك عقبات ذلك أنهم فى كليتى العتيدة كانوا لا يريدون أن يحتسبوا له عام الإعدادى الذى قضاه فى الجامعة الأمريكية فى بيروت، وكنت إزاء المشكلة تبدو مهمومًا تمامًا. بل وتكاد تسقط إعياءً ويأسًا من حلها، وحتى لم تصدق كلماتى وأنا أطمئنك أن حلها ليس أمرًا مستحيلًا أبدًا، كل ما فى الأمر أننا فى جامعاتنا، مثلما فى حياتنا، بيروقراطيون جدًا، والمشكلة إذا كانت بيروقراطية فحلها لا بد أن يكون بيروقراطيًا هو الآخر. إذ هو لا بد أن يكون قانونيًا، ولشدة بيروقراطيتنا فدائمًا توجد فى لوائحنا وقوانيننا لائحة تلغى لائحة وقانونًا لا بد إذا فتشت عنه بدقة أو ذهبت لخبير أن تجد له قانونًا يلغيه أو يفتح فيه ثغرة تكفى لتحقيق ما تريد، فقط المسألة تستغرق وقتًا، وهكذا.

سافرت وتركت لى توفيق أمانة أحل محلك فيها، وأحل لك المشكلة، وحُلت المشكلة فعلًا، ودخل توفيق أخيرًا كلية الطب، ورغم إلحاحى عليه فلم يكن يأتى لزيارتى فى الأهرام إلا قليلًا، وكنت حين يهل علىّ من باب المكتب أراه بعينيك أنت، فأكاد أدمع فرحةً به، الشاب الرجل الجميل المهذب المقطر عذوبة وذكاء وأدبًا.

كان ابن موت فعلًا.

ولكن موت لم يكن يخطر على قلب بشر.

فلقد جئتنى مرة ذات حين وبصحبتك توفيق وكنت عابس الملامح مغبر اللون فعرفت أن قلبك يعانى، وبشدة، ولكنه لم يكن قلبك أنت، كان قلب توفيق.

وأخذت أنا المسألة، رغم كونى طبيبًا، بسهولة وبساطة، فالمرض الذى ذكرته لى لم ندرسه فى كلية الطب، ومعنى هذا أنه لا بد حالة نادرة تافهة غير خطيرة فلقد درسنا كل ما يمت من أمراض القلب بصلة مهما تكن ندرته، والمرض الذى ذكرته لم ندرسه وهكذا أخذتك إلى الدكتور حمدى السيد نابغة أطباء القلب عندنا، إذ هو جراح قلب وطبيب قلب معًا وعنده دكتوراه فى كل تخصص منه، وكان ناجحًا، بل رائدًا من رواد جراحة القلب فى لندن وهى لا تزال فى حالتها الجنينية الصغرى، ولكنه، إيمانا منه بمصر عبدالناصر، ترك لندن وجاء إلى القاهرة يكافح مع ومن أجل شعبه الكثير الثالث.

وتركته مع توفيق وأخذت أنا أصنع المستحيل لأزيل الخطر، إذا الخطر كان عليك أنت يا نزار، كنت كمَن هو على شفا أزمة قلبية أخطر ألف مرة على توفيق نفسه من خطورة ما عند توفيق من مرض.

وحين خرج علينا حمدى السيد خرج هلع الملامح، وذكر لنا اسمًا جديدًا علىّ تمامًا أنا الذى درست الطب فى الخمسينيات أذكر تقدم طب القلب وتعددت تشخيصاته فى تلك المدة، حالة كذا.

والعلاج؟ لا علاج. نستشير؟ ممكن استشارة الأستاذ (...) فى لندن..

وهذه المرة غادرت أنا وهو معًا،

وضرب مَن يعرفونك كفًا بكف هلعًا وهم يقرأون خبر موته المفاجئ وهو راقد فوق منضدة الكشف عند الطبيب، وحتى قبل أن يكشف الطبيب عليه.

كل من يعرفونك فعلوا هذا، ماعداى، إذ كنت بعدما افترقنا عاودت الاتصال بالدكتور حمدى السيد إذ- وربما لأنى أعرفه تمامًا أحسست أن حبوره وهو خارج من غرفة الكشف لم يكن ذلك الحبور الحقيقى الصادر عن نفس مقتنعة، كان هناك شىء ما لم يرض فى ملامحه.

واتضح السبب

فإذ وأنا أسأله باستخفاف عن مرض توفيق أجابنى بصوت جاد لا استخفاف فيه، أنه مرض خطير جدًا، صحيح أنه نادر تمامًا، واحد فى المليون ربما، ولكنه مرض يصيب عضلات القلب نفسها أو ربما يصيب مراكز الاتصال العصبى القائمة بين أعصاب القلب الخاصة وبين عضلاته لا أذكر، وخطورته تكمن فى أنه من الممكن فى أى لحظة أن يوقف القلب تمامًا ويموت المصاب به فى الحال بأسرع مما يموت به المصاب بأى ذبحة قلبية أو هبوط مفاجئ فى القلب.

وفى هلع سألت الدكتور حمدى بصوت بحته المفاجأة: والعلاج؟

لا علاج

لا علاج بمعنى الكلمة، لا يوجد ثمة عقار محدد لعلاجه، وأن الكارثة ممكن فى أى لحظة أن تقع

وعشت أيامًا رهيبة واضعًا يدى على قلبى، فهكذا مكتوب لتوفيق أن يموت، ولكن ما أنا متأكد منه أنك أنت ستموت حتمًا بموته، فلقد تركت دنياك ودارك وكل شىء فى حياتك وجئت للقاهرة لتقصر من حياته الدراسية عامًا أو لتطيل فى عمره المهنى عامًا، فماذا يحدث إذا ضاع منك فجأة، هكذا، بكل عمره؟!.

ما أكثر ما ذهبت إلى الدكتور حمدى السيد أعتصر منه أملًا، أى أمل، وكان فعلًا يعطينى الأمل، ولكن، أى أمل، أمل يعتمد على الصدفة وحدها، فممكن أن تحدث النوبة وممكن ألا تحدث، من الممكن أن يعيش إنسان ما عمره كله وهو مصاب بهذا المرض الكامن لكنه لا يموت به، ومن الممكن أن يموت به فى اللحظة القادمة. فأى أمل هذا المحمول فوق رأس دبوس احتمالًا، حياتنا كرأسى دبوسين عابثين، تعتمد على صدفة التقاء رأسيهما إذا قذف بهما فى اتجاهين متقابلين، من ركن غرفة ما إلى أى ركن مقابل. أى أمل أو احتمال هذا تملكنى؟!.

ومات توفيق، فجأة، فقد كان الاحتمال الآخر أقرب من حبل الوريد، بعد أقل من شهر من اكتشاف المرض، مات.

ومت أنت يا نزار.

ألم تأتك الأزمة القلبية التى عصفت تمامًا بينبوع الحياة فيك

أما أنت يا نزار فالخلاص لنا ولك أن تظل تمسك بالقلم استعذبه من أقدار فجعتك فى توفيقك وبلقيسك وأمتك.

لنصنع لهم أمة من وهم يا نزار، ما دام هذا هو الواقع الذى فشلنا فى إخفائه.

لنبحث، ولتكن مهمتنا، حتى لو متنا ونحن قوامون بها، أن نعثر لهم، وسط الظلام والعفار والآهات، والقبح والمحن، على شعاع جمال.

ولو شعاع واحد.

مجرد شعاع

حتى لو كان واحدًا

فلكل أجل كتاب

وكتابنا نحن هو أجلنا

اغفر لى يا صديقى أن أكف عن هذه الكلمات، فحقًا، وكما قلت، أصبحت، فضيحتنا، كلماتنا.

يوسف إدريس».