رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خبيئة آدم (15).. لا أستطيع العيش بعقل ميت

بدأ "آدم الصغير" يشعر ببعض الراحة بتراجع السعال.. فبعد أن كان يسعل كل 20 ثانية.. أصبح يسعل من وقت إلى آخر.. بدأ يتفاءل بالقادم.. نظر إليه جده وقال: "أشعر أنك أفضل الآن".. الحمد لله.. كل شىء في الجسد يهون.. إلا وجع القلب.. والسعال كان يهد قفصى الصدرى.. ويحرك قلبي من مكانه.. لدرجة أنني كنت أتحسس أين ذهب في أحيان أخرى".. نظر إليه الجد ابتسامة رضا وهو يردد هذه الكلمات ثم قال له: "الشدة للرجال يا ولدي.. أجدادك خاضوا شدائد مثلك.. وخرجوا منها أقوى.. الشدة تشد عودك.. لتصير أقوى وأقدر على المواجهة.. جدك مصطفى بلغ عقل وفعل الرجال في عمر الصبا.. صنعته الشدة".

يظهر مصطفى وهو يدخل شارع البندقانيين من ناحية شارع الوراقين.. تتراص دكاكين العطارة وبيع البارود إلى جوار بعضها بعضًا.. يبدو الشارع مزدحمًا بالتجار والزبائن تتعالى فيه أصوات الفصال بين الطرفين.. ويصرخ فيه الزبائن بضرورة تجربة البارود قبل دفع ثمنه.. يسير "مصطفى" بخطا سريعة متزنة حتى يصل إلى دكان المعلم "أحمد ميلاد" وهو يتوسط الشارع الذي يبدأ من "الوراقين" وينتهي عند "الحمزاوي".. يدخل مصطفى الدكان ويلقي السلام على المعلم "ميلاد":

  • مصطفى: السلام عليكم يا معلم.
  • ميلاد (بابتسامة): وعليكم السلام والرحمة.. اسمح لي يا مصطفي يا ولدي.. أنا مستغرب حالك.
  • مصطفى: ما الغريب يا معلم في أمري؟
  • ميلاد: أنت أول صبي يدفع من جيبه لمعلمه.. كل الصبيان الذين يعملون في دكاكين البندقانيين يقبضون من معلميهم.. أما أنا فأقبض منك آخر اليوم.
  • مصطفى: العقد شريعة المتعاقدين.. أنت تعطيني المعرفة التي سأربح منها الكثير فيما بعد.. تعلم أنني استأجرت دكانًا بالشارع.. لكنني لا أريد أن أبدأ على جهل.. أريد بداية على نور.. وأنت تنير لي طريق التجارة.
  • ميلاد: رحم الله والدك يا مصطفى.. ألم تعرف بعد أين ترقد عظامه؟.
  • مصطفى (بأسى): لا يا معلم.. لكنني لا أنسى.. وسوف يأتي يوم أعرف فيه.

    أراد مصطفى أن يبدأ مشواره بالمعرفة.. فاتجه إلى صديق والده المعلم أحمد ميلاد لينير له الطريق.. وعرف من خلال عمله معه في دكانه كل صغيرة وكبيرة في تجارة البارود.. من أين يأتي به؟.. ولمن يبيع؟.. ومن الزبائن الذين يدفعون فيه خصوصًا من العربان الذين يحتاجون إليه بشدة لمواجهة طغيان الترك أو طمع بقايا المماليك فيما يضعون أيديهم عليه؟.. وكان في باله هدف معين من وراء التعامل مع العرب.. عرف أيضًا في دكان المعلم "ميلاد" كيف يفرق بين البارود الحقيقي والآخر المغشوش.. ومعلومات أخرى كثيرة عن صناعته وتجارته.

    وبعد أن تعلم كل شىء عن تجارة البارود سارع "مصطفى" إلى تعلم اللغة الإنجليزية، فتعلمها بسهولة بسبب إتقانه للفرنسية. وكان هدفه من ذلك تسهيل مسألة عقد صفقات شراء براميل البارود، وخصوصًا من الإنجليز الذين ينتشرون في بر مصر. قال لنفسه إن الزمن القادم هو "زمن الإنجليز" ولا بد أن أتعلم لغتهم من أجل الزمن ومن أجل التجارة.

    خدمت الظروف "مصطفى" حين وقعت حادثة خطيرة بعد عدة أشهر من بدء العمل بدكانه. كان ذلك في أحد أيام رمضان، حين كان أحد كبار التجار بشارع البندقانيين يبيع برميلين معبأين بالبارود. طلب المشتري تجربة البارود قبل شرائه، فجربه له  التاجر في قطعة حبل، رضي الشاري بالبيعة، فوضع صاحب البارود الحبل الذي لم يزل مشتعلاً إلى جواره ثم بدأ يزن له المطلوب، ومع الإهمال تساقطت حبات من البارود على الحبل ولك أن تتوقع الباقي. انفجار عظيم وقع في الحانوت وامتد بالطبع إلى الحوانيت والبيوت المجاورة إلى درجة سماع صوته في الأزهر والحسين، وأخذت الأجساد تتطاير ومعها البضائع، وطاشت قطع الرصاص والقصدير والنحاس لتصيب من قدر الله نصيبًا للإصابة أو للموت في هذه المحنة.

   لم يكن مصطفى متعاطفًا مع الناس مثل أبيه، ويرى أن مقتله جاء بسبب عجزه عن العيش بوجدان ميت.. وعندما كانت أمه تعاتبه على ذلك كان يقول لها: "طالب عظام أبيه لا بد أن يعيش بقلب ميت.. أبي كان يقول: لا أستطيع العيش بوجدان ميت.. أما أنا فأقول: لا أستطيع العيش بعقل ميت".