رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا حاصر تلاميذ أحمد ابن حنبل بيت الطبري

أحمد الصغير يكشف في كتابه «الجلمود» كيف عذب علماء المسلمين ومفكريهم

الجلمود
الجلمود

يتعرض الباحث أحمد الصغير في كتاب "الجلمود"، إلي تفسيرات الموروث الفقهي الديني، والتي كانت مجرد اجتهادات تحولت مع الوقت إلى مقدس وجزء من الدين، من يقترب منها بالنقد أو التساؤل يشهر الأوصياء علي الدين التهمة الجاهزة، ألا وهي الزندقة قديما الكفر والردة حديثا، من أول الخوارج مرورا بأغلب الفرق الدينية التي خرجت من عباءتها، مرورا بالإخوان المسلمين وليس انتهاء بالدواعش. 

كانت الدعوات التي استهدفت تكفير المفكرين والمجتهدين في طرح تأويلات وقرءات جديدة للنصوص في الماضي والحاضر تهدف في حقيقتها إلى تكريس الجهل والتخلف وتسطيح العقول وحرمانها من الفعل الآلهي الأول "أقرأ" والأوامر الآلهية الحاضة علي التفكير وإعمال العقل ومصادرة محفزات الإبداع من المجتمع العربي وحرمانه من حقوقه الإنسانية، بحيث يصبح غير قادر على مواجهة التحديات وربما تدفعه إلى التقهقر والتراجع نحو العصور المتزمتة المتشددة المتصلبة بالاتجاه الذي يرمي إلى كبح جماح حرية الفكر والعودة بها إلى حظيرة الفترات المظلمة التي خسرنا فيها كل شيء تقريبا.

 إن أغلب الفتاوى المعادية للرعيل الأول من المفكرين ممن غردوا خارج السرب حصرت صفة أهل العلم على المشتغلين فقط في مجالات الفقه والخطابة وحفظ وتلقين النصوص الفقهية، تلك اللعبة التي تمارس علي مر الأزمان والأمكنة. وحول هذه المسألة يدور أحد أروع فصول كتاب "الصخرة" للكاتب أحمد الصغير، والذي جاء تحت عنوان: "صفحات من تاريخ الدم والنار" وفيه يعرض لأهم الأسماء التي لمعت في الحضارة العربية الإسلامية قديما، ويتشدق أحفادهم اليوم ويفخرون بأنه عن طريق إسهاماتهم في كافة مجالات العلوم والفنون والتي نقلها عنهم الغرب وبنوا أسس حضارتهم الغربية الحديثة، لا يعلمون أو يتجاهلون أن جل هؤلاء العلماء والمفكرين اتهموا بالزندقة وعذبوا ومنهم من قضي نحبه تحت التعذيب. 

ومن تلك الأسماء التي ذكرها أحمد الصغير في كتابه "الجلمود" جابر بن حيان، والذي مات في السجن، كفره ابن تيمية لأنه شيعي المذهب، وقال عنه: أما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيمياوية فمجهول لا يِعرف وليس له ذكر بين أهل العلم ولا بين أهل الدين".

أما أبو نصر محمد الفارابي، والذي لقب ب"المعلم الثاني" نسبة للمعلم الأول أرسطو، والإطلاق بسبب اهتمامه بالمنطق لأن الفارابي هو شارح مؤلفات أرسطو المنطقية، فقد كفره أبو حامد الغزالي وابن تيمية. لم يختلف الأمر مع محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبو جعفر الطبري٬ إمام من أئمة المسلمين من أهل السنة والجماعة. مؤرخ ومُفسر وفقيه مسلم صاحب أكبر كتابين في التفسير والتاريخ. وكان مجتهداً في أحكام الدين لا يقلد أحداً، بل قلده بعض الناس وعملوا بأقواله وآرائه. يعتبر من أكثر علماء الإسلام تأليفًا وتصنيفًا٬ إلا أنه "اصطدم برأس الحنابلة (أبو بكر بن داوود) فأغري به العامة في أواخر حياته٬ كان العامة المتعصبون للحنابلة يقتحمون الدور وإذا ما وجدوا نبيذا أراقوه وإذا وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء٬ وتداخلوا في عمليات البيع والشراء في الأسواق وكانوا يستوقفون الرجل في الشارع٬ إن كان سائرا مع امرأة وسألوه عنها فإن لم تكن زوجته ضربوه٬ فتحولت الشوارع لساحات قتال. 

ويستطرد أحمد الصغير في كتابه "الجلمود": قام الطبري بتأليف كتاب ذكر فيه اختلاف الفقهاء لم يصنف مثله، ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل فسألوه عن ذلك فقال أن أحمد بن حنبل لم يكن فقيها٬ وكان هذا رأيه في الإمام أحمد. في هذه الأجواء تحلق بعض العامة وبعض تلاميذ أحمد بن حنبل حول الطبري وسألوه عن حديث أحمد بن حنبل عن إجلاس الله لنبيه على العرش فقال: محال٬ فرموه بمحابرهم ودخل داره فتتبعوه ورجموا داره بالأحجار حتي صارت كالتل٬ وكانت أعدادهم كبيرة لدرجة أن الأمر تطلب عدة آلاف من جنود الشرطة لمنعهم عن الرجل. 

ويشدد أحمد الصغير في كتابه "الجلمود" علي تلاميذ ابن حنبل اتهمو الطبري بالإلحاد ولم يخرج من بيته حتي مات في داره كمدا ودفن فيها، ودفن ليلا لأن العامة المتطرفين قد منعوا دفنه نهارا.

 وعشرات من العلماء ممن أفنوا حياتهم فيما أضافوه وقدموه للبشرية جمعاء٬ لم يسلم المقفع ٬الكندي٬ الرازي٬ أبو حيان التوحيدي٬ المعري وابن سينا٬ المعز بن باديس٬ ابن رشد والسهروردي ..من تهمة التكفير والإلحاد. ومن المفارقات التي لفت إليها الكاتب أن دائرة التكفير عادت وردت علي أصحابها، فنجد ابن تيمية صاحب القدر الأكبر من أحكام التكفير يتهم هو نفسه بتلك التهمة في أواخر حياته.