رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عيد شم النسيم.. عيد بدء الخليقة

فى محاضرة رائعة لعالم الآثار المصرية الأستاذ الدكتور سليم حسن، والتى ألقاها بالقاهرة فى 11 مارس 1936م، بعنوان "العادات المصرية القديمة الباقية إلى الآن فى مصر الحديثة"، قال: "مما يثير الدهشة ويبعث على العجب أن المصرى برهن على أنه أكثر شعوب العالم محافظةً على عاداته وطرق معيشته بشكل يثير الإعجاب.. فتراه منذ نشأته متمسكاً بتقاليده فى كل نواحى الحياة فإذا جاء شىء جديد لم يجعله يتخلى عن القديم بل يضيفه إليه دون أن ينظر إلى التناقض بين الجديد والقديم". 

فإذا تناولنا الأعياد المصرية القديمة وصلتها بالأعياد الحالية نجد مثلاً عيد شم النسيم.. كانت السنة الشمسية عند المصريين القدماء تبدأ بعد اكتمال البدر الذى يلى الاعتدال الربيعى مباشرة "الذى فيه يتساوى الليل والنهار"، وكان يوافق 25 برمهات (3 أبريل)، ويعتقدون أن ذلك اليوم هو بدء خلق العالم.. وكان شم النسيم يوافق موعد احتفالهم بأول فصل الربيع، وقد أطلقوا عليه بالهيروغليفية اسم "شمو" Shemw، وهو أحد فصول السنة المصرية القديمة- فصل الحصاد- الذى يشمل أربعة أشهر "من منتصف فبراير- حتى منتصف يونيو"، ثم حُرف الاسم إلى "شم" وأضيفت إليه كلمة "النسيم" حتى تصبح علماً عليه.. وقد رُمز لفصل الحصاد "شمو" بالعلامة الهيروغليفية "عنخ" أى أنه فصل الحياة، فكلمة "عنخ" وبالقبطية "أونخ" تعنى الحياة .. وعيد شم النسيم، كما يقول الباحث وليم نظير فى كتابه "العادات المصرية بين الأمس واليوم" الصادر عام 1967، إن عيد شم النسيم وثيق الصلة بعيد الفصح اليهودى، فإن اليهود حين خرجوا من مصر فى عهد موسى النبى وافق ذلك اليوم موعد احتفال المصريون ببدء الخلق وأول الربيع واعتبروه رمزاً لسنتهم الدينية وأطلقوا على يوم خروجهم "الفصح"- وهى كلمة عبرية من "فصح" أو "فسخ" بمعنى اجتاز أو عبر، واشتقت منها كلمة "بصخة" التى يطلقها المسيحيون على أسبوع الآلام وهو الأسبوع الذى يسبق أحد قيامة السيد المسيح من الأموات، ومنها جاءت الكلمة الإنجليزية Passover أى عبر واجتاز- وأراد اليهود بذلك أن يشيروا إلى نجاتهم من غضب فرعون وتحريرهم من عبوديته لهم، فذبحوا خروف الفصح ورشوا دمه على بيوتهم حتى ينجوا من الملاك المُهلك.. وهكذا اتفق عيد الفصح اليهودى مع عيد الخلق المصرى ثم انتقل الفصح بعد ذلك إلى المسيحية لموافقته موعد قيامة السيد المسيح.. ولما انتشرت المسيحية فى مصر أصبح عيد القيامة عند المسيحيين يلازم عيد المصريين القدماء، ويقع دائماً فى يوم الإثنين وهو اليوم التالى لأحد القيامة.
 

وكان المصريون القدماء يحتفلون بعيد الربيع بنفس الصورة التى يحتفل بها المصريون الآن فى يوم شم النسيم، فكان الاحتفال يشترك فيه الفرعون والوزراء والعظماء، فهو العيد الذى تُبعث فيه الحياة ويتجدد النبات وينشط الحيوان، فهو بمثابة "الخلق الجديد" فى الطبيعة.. وكانوا يفرحون بحلوله ويجعلون منه يوم راحة، ففيه تزدهر الخضرة وتتفتح الزهور ويخرج الناس أفواجاً وجماعات إلى الحدائق والحقول للترويح عن أنفسهم وهم فى نشوة من الفرح والسرور ويقضون يومهم فى أحضان الطبيعة الباسمة تاركين وراءهم متاعب الحياة وهمومها.. كان قدماء المصريين يجتمعون أمام الواجهة الشمالية للهرم قبل الغروب ليشهدوا غروب الشمس، فيظهر قرص الشمس وهو يميل نحو الغروب مقترباً تدريجياً من قمة الهرم، حتى يبدو للناظرين وكأنه يجلس فوق قمة الهرم، وتخترق أشعة الشمس قمة الهرم، فتبدو واجهة الهرم أمام أعين المشاهدين وقد أنشطرت إلى قسمين.  
 

ومن مظاهر الاحتفال بالعيد فى مصر القديمة: أكل البيض والسمك المملح "الفسيخ"- إذ إن الملح يحفظ الشىء من الفساد أى يبقيه حياً- والبصل والخس والملانة "الحمص الأخضر" ولحم الأوز والبط المشوى.. والبيض عند الفلاسفة هو أصل الخلق، ومن البيضة "التى تشبه القبر المغلق" يخرج الكتكوت "الحياة"، لذلك اتخذت المسيحية البيضة رمزاً للحياة، فاعتاد المسيحيون أن يضعوا على مائدة الطعام فى أثناء وجبة الإفطار البيض الملون وبالأخص اللون الأحمر ويزينوه بأشكال مختلفة، كما اعتاد بعض الناس أن يعلقوا حِزّم البصل على أبواب المنازل.. وقد صورت بعض برديات منف الإله "بتاح"- إله الخلق عند الفراعنة- وهو يجلس على الأرض على شكل البيضة التى شكلها من الجماد.. وقد أخذ العالم عن مصر القديمة أكل البيض فى شم النسيم، فصار البيض الملون هو رمز عيد الفصح الذى يتزامن مع شم النسيم.. كما ذكر هيرودوت، المؤرخ اليونانى الذى زار مصر نحو القرن الخامس قبل الميلاد: "إن المصريين كانوا يأكلون السمك ويجففون بعضه فى الشمس ويأكلونه نيئاً ويحفظون البعض الآخر فى الملح"، وهو يعنى بذلك "الملوحة" أو "الفسيخ" الذى كانوا يرون أن أكله مفيد أثناء تغيير الفصول، ويعتبر البصل من أهم الخضر التى انتشرت زراعتها فى مصر، وقد سُجلت صوره على موائد القرابين منذ الأسرة الخامسة، وكان أحياناً يُربط حزماً ويُقدم قرباناً للآلهة.. كما أنه يوجد العديد من صور البصل منقوشة على جدران القبور، وبها يلاحظ بعض الكهنة وهم يمسكونه فى أيديهم، كما وُجدت رسوم أخرى لبعض المذابح وهى مغطاة به.. أيضاً عُثر على البصل فى يد إحدى المومياوات وفى لفائف أكفان الموتى منذ الأسرة الثالثة عشرة، كما وُجد قشرالبصل على عين المتوفى وكان يوضع على التجويف الجوفى والصدرى والأذن.. وورد ذكر البصل فى النقوش الهيروغليفية باسم "بدجر" أو "بصر" وإن كان بعض علماء الآثار ينطقونها "بصل" بلفظها الحالى.. كما ورد ذكره فى كثير من الكتابات القديمة والكتب المقدسة.. ويذكر هيرودوت أن العمال الذين قاموا ببناء الهرم الأكبر "هرم الملك خوفو" بالجيزة قد استهلكوا كميات كبيرة من البصل ضمن طعامهم اليومى، وهذا ما نشاهده اليوم فى مواقع البناء عند فترة الغذاء عندما يقوم العمال بتناول البصل الأخضر بجانب الجبنة البيضاء والخبز الأسمر.
 

وفى عيد "نتريت" الذى هو أحد الأعياد الزراعية عند المصريين القدماء فى 25 كيهك (3 يناير)، كانوا يعلقون حزماً من البصل فى هيئة عقود حول أعناقهم تبركاً به ثم يطوفون حول معبد الإله "سكر" بمنف يقدمون له القرابين.. وكان المصريون القدماء يضعون البصل قرب أنف المريض فى بداية الربيع وعند ولادة الطفل، وما زال هذا التقليد متبعاً إلى يومنا هذا فى شم النسيم عندما يستقبل الناس يوم العيد بوضع البصل بالقرب من الأنف، أو وضعه تحت وسائدهم أو فوق أسرّة نومهم اعتقاداً أنه بهذا التقليد يقضى الشخص العام كله فى همة ونشاط ولا تزوره روح الكسل ولا يمرض. 

كما أن هناك فريقا آخر من الناس يصبون عصير البصل على عتب الباب لاعتقادهم أنه يطرد الأمراض والحسد.. ويروى بعض المؤرخين أن اليهود كانوا يأكلون كميات كبيرة من البصل أثناء وجودهم فى مصر وأنهم حزنوا كثيراً من أجله عند رحليهم من مصر تحت قيادة موسى النبى. 

إن شم النسيم هو العيد الذى أوحت به طبيعة بلادنا الزراعية، عيد بعث الحياة، عيد أول الزمان.. فلنحافظ عليه، إنه الميراث الذى ورثناه عن أجدادنا الأولين صناع الحضارة ومُعلمى البشرية بعلومهم المتقدمة وفكرهم المستنير.