رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيادى مصر الخيرة دائماً ممدودة

كان الاستعداد المصري مخلصاً لقبول إنشاء سد النهضة بطاقة تخزين تبلغ 14.5 مليار متر مكعب، وليس بطاقة التخزين التي يستهدفها السد الآن، وهي أكثر من 70 مليار متر مكعب، بزيادة تقترب من خمسة أضعاف.. إلا أن هذا الاستعداد لم يُترجم إلى اتفاق بين القاهرة وأديس أبابا. لذلك، يرى خبراء في قوانين المياه الدولية أن إعلان المبادئ بالخرطوم، عام 2015، كان خطوة إيجابية. أقرت لأول مرة، رسمياً، إدراك أهمية نهر النيل كمصدر حياة، ومصدر حيوي لتنمية شعوب مصر وإثيوبيا والسودان، وتقدير للاحتياج المتزايد لمصر ، وإثيوبيا، والسودان لمواردها المائية العابرة للحدود.. وأن توقيع الرئيس عبد الفتاح السيسي على إعلان الخرطوم عزز موقف مصر كـ (جار منصف وعادل)، لها (حقوق تاريخية)، أهمها حصتها من المياه البالغة 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، وضرورة الحصول على موافقتها على أي مشروعات تقام على النيل.

وثائق بريطانية، تم نشرها مؤخراً، كشفت عن أنه كانت لمصر، قبل 74 عاماً، مبادرات جادة بشأن التعاون مع دول حوض النيل، وخصوصاً مع دولة المنبع، إثيوبيا.. تقول الوثائق، إن مصر لم تُثِرْ فقط مسألة التعاون عن طريق إنشاء مشروعات مشتركة للاستخدام الأفضل لمياه النيل، بل هي التي اقترحت أول مشروع مشترك لإنشاء سد على النيل الأزرق، الذي تقيم إثيوبيا سد النهضة عليه الآن.. ففي عام 1946، اقترحت وزارة الأشغال العامة المصرية ثلاثة مشروعات مشتركة في إثيوبيا وأوغندا وجنوب السودان ـ دولة جنوب السودان حالياً.
 

المشروع الأول، عبارة عن سد على الطرف الجنوبي لبحيرة تانا، التي ينبع منها النيل الأزرق، مصدر قرابة 80% من مياه النيل الرئيسي.. وكان موقع السد المقترح على بعد ألف كيلومتر على الأقل من موقع سد النهضة الذي توشك إثيوبيا على الانتهاء من بنائه قرب حدودها مع السودان.. وفي اقتراحهم، الذي كان ضمن تقرير بعنوان (صيانة النيل مستقبلاً)، قال ثلاثة خبراء بريطانيين يعملون لدى الوزارة المصرية، وهم هيرست وبلاك وسيميكا، إن الهدف من السد المقترح هو (تحويل البحيرة إلى خزان يحفظ المياه التي تتدفق إلى النيل الأزرق متحولة إلى فيضانات تجمع الطمي في طريقها).. ووصف الخبراء مشروعهم بأنه (محاولة لاستخدام الحد الأقصى لإمدادات المياه في التنمية النهائية لمصر والسودان، وللمشروعات المقامة على النيل اللازمة لتحقيق هذا الهدف).
 

حينها أبدت بريطانيا، التي توقعت قبل عام 1990 الأزمة الحالية بشأن سد النهضة، تأييدها القوي للمشروع.. وفي برقية إلى سفارتها بالقاهرة، قالت الخارجية البريطانية، إن الهدف الرئيسي هو (تخزين المياه في بحيرة تانا للاستفادة منها في موسم الجفاف في حوض وادي النيل.. وأوضحت البرقية، التي أرسلت نسخة منها إلى السفارتين البريطانيتين في أديس أبابا والخرطوم، إن للمشروع فوائد أخرى، منها (تمكين إثيوبيا من توليد احتياطات هائلة من الكهرباء).. غير أن إثيوبيا لم توافق على المشروع، الذي سُمي مشروع بحيرة تانا، في حينه.. وبعد عشر سنوات تقريباً، كشفت وثيقة مصنفة (سرية للغاية) عن أن الإثيوبيين كانوا «(أكثر اهتماماً بمشروع من شأنه توليد الكهرباء لهم أكثر من اهتمامهم بمشروعات، مثل إنشاء سد على مخرج بحيرة تانا، سوف يفيد المصريين والسودانيين).
 

وفي الوثيقة التي جاءت ضمن تقرير موجه إلى مكتب رئيس الوزراء، قالت الخارجية البريطانية (لو أردنا الدفع باتجاه مشروع من النوع الأخير لإفادة المصريين والسودانيين، فإنه يتعين علينا أن نرفق اقتراحنا بعرض للمساعدة في توليد الكهرباء للإثيوبيين).. وتوقع التقرير أن (يرحب الإثيوبيون بأن تجري لجنة فنية مستقلة دراسة مسحية لكل وادي النيل.. ومن المحتمل ألا يعترضوا على أن ينظم البنك الدولي هذه العملية).. غير أن هذا لم يحدث. نكسة مصر عام 1967، فوجئ المصريون بأن إثيوبيا أنشأت، منفردة، السد وأطلقت عليه اسم (هدار شارا شارا)، دون إبلاغ القاهرة، بهدف توليد الكهرباء.. ولم تثر مصر ضجة بشأن هذا السد، لأنه لم تكن له أضرار محسوسة على مياهها.
 

المشروع الثاني، الذي جاء ضمن تقرير (صيانة النيل مستقبلاً)، أسماه خبراء وزارة الأشغال العامة المصرية (مشروع النيل الاستوائي).. وهو، وفق تقريرهم، عبارة عن سدين على بحيرتي ألبرت وفيكتوريا (سد شلالات أوين) في أوغندا.. وهاتان البحيرتان هما أحد مصادر النيل الأبيض، الذي يلتقى مع النيل الأزرق في الخرطوم ليشكلا نهر النيل المار بالسودان ومصر.. وبدأ العمل في سد شلالات أوين في فبراير 1949، وافتتح أوائل عام 1954 بمشاركة مصر في التمويل.. ولا تزال هناك بعثة هندسية مصرية مقيمة في أوغندا لمتابعة عمل السد.
 

في عام 1980، قدم المجلس العسكري الانتقالي في إثيوبيا شكوى ضد مصر إلى الاتحاد الإفريقي بعد إعلان الرئيس الراحل أنور السادات استئناف العمل في مشروع قديم، يهدف إلى توصيل مياه النيل إلى شبه جزيرة سيناء.. واستشهدت السفارة البريطانية في القاهرة بمشروع سد شلالات أوين، كي توضح للحكومة البريطانية عدم صدق ادعاءات إثيوبيا بأن المشروع يخالف التزامات مصر ويضر بإثيوبيا.. وفي تقرير لها بشأن الخلاف، قالت السفارة (إن مصر واعية تماماً بأن التعاون بين دول حوض النيل هو الطريقة الصحيحة لتنمية نهر مشترك.. والسد الذي بُني على شلالات أوين في أوغندا مثال جيد في هذا الصدد).. وأضاف التقرير (مصر احتاجت المياه للري، بينما احتاجت أوغندا الطاقة الكهربائية.. وبروح التعاون وحسن النية في إطار اتفاقية 1929، تعاونت الدولتان لتقاسم تكاليف بناء السد الذي يلبي متطلبات كل من الدولتين).. ومضى التقرير يقول (هناك الكثير من الأمثلة الأخرى التي تثبت بوضوح أن مصر مستعدة دائما للتعاون من أجل منفعة دول حوض النيل).
 

أما المشروع الثالث، فهو قناة جونجلي لنقل المياه المسربة من منطقة بحر الجبل، وتُفقد في المستنقعات المحيطة بها في جنوب السودان ـ جمهورية جنوب السودان حالياً ـ وتبدأ القناة من جونجلي، على بعد 80 كليومتراً شمال المنطقة المطلة على بحر الجبل، إلى النيل الأبيض.. وكان المتوقع أن توفر القناة ما يقارب 13 مليار متر مكعب من المياه.. وتقول تقارير إن أعمال حفر القناة، التي كان من المتوقع أن يبلغ طولها 360 كيلومتراً، بدأت في الربع الأخير من ثمانينيات القرن الماضي، ولكن العمل توقف فيها، لأسباب فنية وأخرى تتعلق بالحرب بين جنوب السودان وشماله، بعد حفر 260 كيلومتراً.. وهناك تقارير حديثة تشير إلى مشاورات بين مصر وجمهورية جنوب السودان لاستئناف العمل بالقناة لتعوض المياه جزئياً، التي تخشى مصر أن تفقدها بسبب سد النهضة الإثيوبي.
هذه لمحة تاريخية، تشهد عليها وثائق بريطانية، تؤكد حرص مصر الدائم على التعاون مع دول حوض النيل، وسعيها الدءوب لفعل ما من شأنه مصلحة الأشقاء، بالتزامن مع الحفاظ على حقوقها وحماية أمنها.. لكن الرياح تأتي دائماً بما لا تشتهي السفن.
 

حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.