رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف فكروا في تحريم القهوة؟

هل وصلكم خبر الشيخ أحمد عبدالحق السنباطي؟! أظن معظمكم لم يسمع عنه ولكنك ستعرف من خلال هذا المقال أنه كان إمام المذهب الشافعي في مصر منذ خمسة قرون، وأنه قام بتحريم القهوة! لا تتعجب فكثير منا عرف خبر هذا التحريم ولكننا لم نعرف القصة كاملة، وأنا معكم لأروي لكم حكاية هذا التحريم.. وفي البداية أظنك ستتساءل معي: لماذا تشدد هذا الشيخ الكبير صاحب الصيت والذي كان المصريون يعتبرونه خطًا أحمر حينما أصدر عدد من الفتاوى المتطرفة؟ وما هي أدواته العقلية التي استخدمها وقتئذ؟ لاحظوا أنه عندما كان يحرم كان البعض يسأل ما هو النص؟ فكان الناس من أتباعه يقولون: إن سألت النص أين، إن عبدالحق أفتى!! النص هنا هو الرجل نفسه، هو عبدالحق.
 

ولكن قبل أن أجيب عن هذا السؤال وأروي لكم الحكاية، هل تسمحون لي بأن أوجه إليكم سؤالا؟ هل الإسلام دينٌ معقد لا نستطيع فهمه دون وسطاء؟ هل أنزل الله هذا الدين على الخاصة وعليهم أن يفقهوه ثم يقوموا بتعليمه للعوام، وليس للعوام إلا أن يصدقوا ما قاله لهم أسيادهم العلماء؟ وإذا كان الأمر كذلك وكان أهل قرية يعيشون بعيدًا عن العمران وكانوا من العوام وليس معهم إلا القرآن الكريم ولم يستطع أحد منهم أن يقوم بتحصيل ما يطلقون عليه العلوم الشرعية، أو السفر إلى البلاد البعيدة ليتلقى هذا العلم، فهل يصح إسلامهم؟ ثم ما هي تلك السلطة التي يمتلكها أولئك الذين ليست لهم تسمية تناسبهم إلا "رجل الدين"، وبالمناسبة هل يوجد في الإسلام وظيفة اسمها رجل الدين؟ كيف استعبد رجال الدين عقول البسطاء؟، على رأي إحدى الصديقات، وأزيد عليها بكيف سيطروا على عقول المتعلمين، وعقول العلماء المتخصصين في علوم الدنيا؟! عندما يلقى رجل الدين هذا قبولا من الناس ويرتفع ذكره بين الناس ينال مصداقية بحيث إذا قال صدَّق الناس وأقسموا أن هذا الرجل هو من رجال الله، فإذا قال لهم إن جبريل ملك الوحي يجلس معهم الآن صدقوه وكبَّروا، أليس هو من علماء هذا المعهد الديني الكبير ويرتدي عمامته ويطلق لحيته؟ كانت هذه السلطة موجودة في أزمنة قديمة ولا تزال بيننا نشهدها رأي العين، ولا يعلم كثيرٌ من المسلمين أن الإسلام جاء لكي يحررنا من تلك السلطة فأنشأناها وعبدنا الله من خلالها.
 

هل تعلمون أن بعض كبار الكبار قالوا إن الرجل يجوز له أن يتزوج ابنته إذا كان قد انجبها من الزنا، فيكون بذلك منيه حرامًا، والحرام لا يُحرّم، وبذلك فإن عقد زواجه بها حلال؟! كيف فكر هؤلاء بهذه الطريقة وخرجوا بفتواهم هذه عن الفطرة التي فطرها الله فينا؟! هل تعلمون أن كثيرا من كبار الأئمة من قال إن حمل المرأة من الممكن أن يصل إلى أربع سنوات وممكن أن يمتد عشر سنوات أو عشرين أو بلا حد أقصى؟! كيف فهموا هذا وأطلقوا الفتوى بذلك وهم يقرأون قول الله: "وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"؟ فوصل بهم الحال أن جعلوا الحمل يصل إلى عشرين عامًا ودون حد أقصى عند بعضهم؟ لا أقول إنهم اجتهدوا قدر ثقافات عصرهم، لأن ثقافات عصرهم لم تكن تبيح تلك المفاهيم المغلوطة، ومع ذلك فهؤلاء هم الذين نتبعهم الآن ونقول إن أحدا لا يستطيع التفكير وتحصيل العلم مثلهم.
 

أليست لديكم غيرة على الإسلام قدر غيرتكم على هؤلاء العلماء؟، أهم أعلى قيمة عندكم من الإسلام؟ أسئلة لا تنتهي وإجابات تغالط ملتنا الحنيفية ملة أبينا إبراهيم، التي أمر اللهُ الرسولَ باتباعها.
 

ما علينا، كيف فكر العالم الفقيه إمام المذهب الشافعي أحمد بن عبدالحق بن السنباطي حين حرّم القهوة على المسلمين منذ حوالي خمسمائة عام؟ أتعرفون كيف؟ بنفس الطريقة التي أفتى فيها في نفس الزمن بهدم الكنائس والمعابد، وبنفس الحماس الذي كان يقود به العامة من أتباعه لهدمها، وما فعل ذلك إلا اتباعًا لكبار الكبار كابن تيمية وبن حنبل والشافعي وغيرهم.
 

أول شيء في منهجه في التفكير والاستدلال والاستنباط والقياس أنه وجد بن منظور في كتابه "معجم لسان العرب" يقول إن القهوة اسم من أسماء الخمر، وسُميت بذلك لأنها تُقهى شاربها عن الطعام أي تذهب بشهوته، وبما أن الخمر هي القهوة، فتكون القهوة هي الخمر..
 

وثانيًا لأن القهوة تُنبه العقل أي تغير حالته، وطالما أن هذا المشروب غيَّر طبيعة العقل فيكون خمرًا حتى ولو كان التغيير للتنبيه واليقظة، فالعبرة عنده في الخمر أن حال العقل يتغير بها، ولذلك أي مشروب يغير حالة العقل فهو مسكر، ومع براعته في اللغة العربية كواحد من أساطينها وشُرَّاحها إلا أنه لم يلتفت لنفس معجم لسان العرب لابن منظور الذي جاء فيه "السَّكْرَانُ: خلاف الصاحي، والسُّكْرُ: نقيض الصَّحْوِ"، ولم ينتبه لأثر القهوة على شاربها ولم يهتم أن يعرف أثرها وهو يطلق فتواه، ولو اهتم لعرف أن القهوة ضد السُكر، وأكرر أنا لا أحاكم الفتوى ولا صاحبها ولكنني أنظر إلى منهجه في الاستدلال لأنه ومثله قيل عنهم إنهم أعلم أهل الأرض ولا يجوز لنا أن نناقشهم في فتواهم، وإذا فعلنا فيجب أن ننتبه لأن لحم العلماء مسموم.
 

أما الأمر الثالث الذي استند إليه فهو أن الناس قد تعودت على أن تشرب القهوة في جماعة فيكون في ذلك مفسدة لأن القهوة تشجعهم على ارتكاب المفاسد وسماع المغنيات والموسيقى، واغتياب الناس، ولأنه وصل إليه أن بيوت القهوة "المقاهي" يُرتكب فيها المنكرات.
 

ورابعًا لأنها بدعة لم تكن موجودة في زمن رسول الله، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.. ورغم أن السلطان العثماني أصدر تعليماته بإباحة القهوة إلا أن السنباطي أصر على موقفه، فما كان من الشيخ الحنفي ابن إياس، وهو من علماء مصر ومؤرخيها وصاحب كتاب "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، وبالمناسبة هو من القبيلة الأباظية التي استوطنت محافظة الشرقيةـ  إلا أن أحضر في بيته مجموعة من الطلبة ممن يشربون القهوة وجعلهم يغلون "قشرة البن" ثم يشربونها، وأخذ يلاحظهم، هل حدث لهم تغير أم لا ، فلم يجد شيئًا غريبًا، فأرسل إلى أهل مصر يبطل لهم فتوى السنباطي، ولكن الدنيا هاجت وماجت، ولن أحكي لكم عن الغزوات التي قادها بن السنباطي لهدم بيوت القهوة وتكسير أوانيها، والتي ترتب عليها قتل بعض المصريين الذين كانوا يشربونها.
 

ومات بن إياس الذي أباحها، ولكنه لم يكن عالما في الدين، فقط كان مؤرخًا ومسلمًا، لذلك لم تترك فتواه أثرًا كبيرًا، وظلت مصر منقسمة إلى من يُحرم القهوة ومن يُحلها، ومر زمن على هذه الحال، ووصل الشغب إلى أعلى درجاته إلى أن أصدر السلطان العثماني قراره بعزل السنباطي من الإفتاء، وجاء مفتي آخر أباح القهوة فورًا، فانطلقت الزغاريد في الطرقات، وأقام تجار البن الاحتفالات، ووزعوا قهوة مسكرة- أي فيها سُكر- على الناس.
 

والآن، انتبهوا لي دقيقة، أنا هنا لا أحاكم الفتوى، ولكني- وسأظل أكررهاـ أنظر إلى منهج هذا الرجل في التفكير، فهذا أحد العلماء الكبار في عصره، وكان الناس كبارهم وصغارهم يسمعون له ويعتبرون أن ما يقوله هو الدين، ولو فكر أحدهم في انتقاده فكان يقال له انتبه إن لحم العلماء مسموم، وهذا عالم وأنت لست أهلا للعلم، ليس لك إلا أن تسمع له وتطيع، فمن أنت أيها النكرة حتى تقول إنه أخطأ، دعوا العلماء للعلماء، فلنتركهم يختلفون وليس لنا من الأمر شيئًا، إلا مولانا الشيخ السنباطي، فهو أعظم من فسّر القرآن، وكان والده من كبار المفسرين، وبراعة السنباطي في تفهيم العوام دينهم وطريقته في ذلك لم يسبقه أحد فيها، السنباطي خط أحمر.
حرر عقلك وافهم دينك