رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمريكان وأفغان

أعلن الرئيس الأمريكى جون بايدن عن عزم بلاده على سحب أو خروج قواتها العسكرية من أفغانستان فى سبتمبر من هذا العام، وتذكرت على الفور «أشرفى صدر الدين» الطالب الأفغانى الوحيد الذى كان يدرس معنا بكلية الآداب بموسكو عام 1973. كان من أطيب الناس، يضحك لكل شىء، ولم تكن لديه سوى بدلة واحدة دخل بها الكلية، وبها أنهى تعليمه، وفيها عاد إلى بلاده.
قلت له ذات يوم: «المتعلمون عندكم قلة، ولاشك أنك بعد إنهاء التعليم سوف تتقلد منصبًا كبيرًا فى كابول، وتتلقى راتبًا ضخمًا؟». قال مبتسمًا: «نعم. لا أقل من خمسة آلاف أفغانى». دهشت من ضخامة الرقم، فسألته: «وكم يكون هذا بالدولار؟». أغرق فى الضحك وهو يدارى فمه بكفه قائلًا: «حوالى ثلاثة دولارات»!
تاريخيًا كانت أفغانستان إحدى أفقر البلاد، لكن الغزو الأمريكى الذى بدأ فى أكتوبر 2001 أجهز على كل شىء فيها، ودمرها، وحسب تقرير لبعثة الأمم المتحدة «أوناما» فقد قتل وجرح ما يزيد على مئة ألف مواطن أفغانى مدنى، وذلك فقط منذ أن بدأ تسجيل الخسائر بين المدنيين عام 2009، علاوة على تدمير كل المؤسسات الأفغانية التى تقدم الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية، والآن بعد عشرين عامًا من الغزو والوجود العسكرى يعلن الرئيس بايدن أنه «حان الوقت لإنهاء أطول حرب خاضتها أمريكا».
والقراءة الدقيقة لذلك التصريح تعرى الحقيقة وهى أن أمريكا تعتزم الخروج من الحرب، لكن ليس من أفغانستان، وأن سحب القوات لا يعنى أن أمريكا ستنسحب، لأن السبب الذى خاضت لأجله الحرب ما زال قائمًا وهو الهيمنة على ثروات ذلك البلد، وتؤكد هذا الدراسة التى أجرتها وزارة الطاقة الأمريكية عام 2007، ورصدت فيها وهى تتلمظ ثروات أفغانستان من المعادن الثمينة، خصوصًا الذهب والنحاس والكوبالت والليثيوم، وقد أكد رئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميللى، فى 2 ديسمبر العام الماضى، أن سحب القوات ليس انسحابًا أمريكيًا، بقوله: «ستحتفظ أمريكا بقاعدتين عسكريتين بعد الانسحاب الرسمى، وعدد من القواعد المنتشرة داخل الأراضى الأفغانية».
وقد عاشت أفغانستان عبر تاريخها معتمدة على الزراعة والرعى، فقيرة، رغم ثرواتها، إلا أن الغزو الأمريكى جعلها إحدى أشد البلدان تعاسة، فمن بين نحو 35 مليون نسمة يعيش 55 % من السكان تحت خط الفقر، ويعانى 35% من البطالة، أما المدارس فتعمل فى خيام وتحت الأشجار والمطر، ولا يجد 15% من السكان القوت اليومى بالمعنى المباشر. وقد كانت الحرب الأمريكية الإجرامية الطويلة استجابة لمتطلبات الاقتصاد الأمريكى ومساعيه للهيمنة على أسواق وموارد شعوب لم تكن بالنسبة لأمريكا سوى «مخزن ضخم للموارد والعمالة والأسواق»، على حد قول المحامى الكندى الشهير كريستوفر بلاك.
فى ما مضى خرجت أمريكا تجرجر قتلاها وجرحاها بعد حرب على فيتنام استمرت نحو عشر سنوات ما بين 1965 حتى 1973، والآن مع إعلان بايدن عن انسحاب جزئى من أفغانستان فإنه يجرجر مرة أخرى خسائره وجراحه، ويكفى فى ذلك الصدد أن نعلم أنه وفقًا لأرقام الحكومة الأمريكية فإن غزو أفغانستان والوجود العسكرى هناك لمدة عشرين عامًا تكلف نحو تريليون دولار من خبز وعرق المواطن الأمريكى، كما لقى مصرعه أكثر من ثلاثة آلاف جندى أمريكى، وأصيب أكثر من عشرين ألف آخرين، وبذلك يثبت النظام الأمريكى مجددًا أن الرأسمالية العالمية خطر ليس فقط على شعوب العالم، بل وعلى شعوبها أيضًا.
وفى سنوات الصراع السوفيتى الأمريكى على أفغانستان، لجأت المخابرات الأمريكية إلى صناعة التنظيمات الدينية، مثل القاعدة وطالبان، لمواجهة وتقليص الوجود الروسى، وأمدت عناصر تلك التنظيمات بالمال ودربتهم فى باكستان وغيرها، وعندما انسحب الاتحاد السوفيتى من الساحة عام 1989 لم تعد أمريكا بحاجة إلى أولئك المجاهدين، لكن طالبان التى سيطرت على أقسام واسعة من البلاد شرعت تطالب بنصيبها فى الكعكة، ومضت لتنتزع وجودها من يدى الأمريكيين هذه المرة وليس السوفيت، وأصبح على أمريكا أن تواجه العفريت الذى أطلقته لترده إلى حجمه الطبيعى، ثم تعلن عن انسحاب جزئى وليس الانسحاب من الهيمنة على ثروات ذلك الشعب الفقير، التعس، الطيب، الذى لم يرتدِ على مدى ثلاثين عامًا سوى بدلة واحدة للحرب، ملأتها الثقوب، عاجز عن أن يغيرها.