رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أم واعية جداً فى تاريخ الكنيسة القبطية

 

 

كما أن تاريخ الكنيسة القبطية ملئ بسير آباء أتقياء وأبناء أوفياء وأطفال شجعان، فإنه أيضاً ملئ بالعديد من الأمهات الواعيات اللواتى صرن مُعلمات لأولادهن من شمامسة وكهنة ورهبان وأساقفة الذين من بينهم بطاركة، وأيضاً فتيات تجملن بكل الفضائل والشجاعة المنقطعة النظير ومن بينهن القديسة "دميانة" والأم "دولاجى" والقديسة "رفقة". والنموذج الحى الذى أقدمه فى هذا المقال هو لأم واعية جداً صارت مُعّلمة بشجاعة منقطعة النظير لأبنها الذى صار بطريركاً وصار يتباهى بمنصبه الجديد – من غير إدارك روحى لمسئولياته الحقيقية – فكانت له مرشدة حقيقية. 

فى 27 فبراير 932م تنيح (توفى) البابا قُزما الثالث البطريرك 58 فحزن الشعب جداً لفراقه بعد أن جلس على الكرسى المرقسى 12 عاماً ( 920 – 932م) إذ كانت نياحته فى تذكار جلوسه!! وكان مداوماً على زيارة شعبه وتفقد أحوالهم ويعزى القلوب المضطربة ويُثبت النفوس الضعيفة، ومن كثرة حزنه الصادق على شعبه لم يقوى على أحتمال أحزانهم فضعُفت قوته الجسمية وأستراح فى الرب، يا لعمق أمانته فى خدمته وصدقه مع نفسه، وهى مشاعر الأب المخلص والراعى الأمين. ولما رأى الأساقفة مدى حزن الشعب وأنهم منزعجين ومنطرحين كأبناء بلا راعى، أتفق الأساقفة ومعهم الأراخنة على رسامة الراهب (وليس الأسقف) مكارى من رهبان دير القديس مكاريوس الكبير بوادى النطرون وكان من مواليد قرية تُدعى "شُبرا" (قرية قريبة من دمنهور محافظة البحيرة)، وكان قد ذهب للرهبنة بدير القديس مكاريوس رغبة منه لبلوغ الكمال المسيحى، وعُرف عنه أنه راهب شديد التقشف والنسك. ومن ثم قصد الدير مجموعة من الأساقفة والأراخنة الأمناء على التمسك بقوانين وتقاليد الكنيسة العريقة إلى دير القديس مكاريوس، وأمسكوا بالراهب مكارى لئلا يفلت منهم، وأخذوه معهم إلى الإسكندرية، وساروا به إلى كنيسة القديس مرقس وهناك أقيم البابا مكاريوس الأول البطريرك 59 فى 27 مارس 923م. 

كان أول عمل قام به بعد بطريركيته زيارة رعوية شملت جميع بلاد القطر المصرى لتففد شعبه والتعرف على أحوالهم بنفسه، ويعزى من كان منهم حزيناً مضطرباً. وفى أثناء هذه الرحلة مر بقرية "شبرا" مسقط رأسه، وقصد إلى البيت الذى قضى فيه طفولته. ولما دخل القرية قصد إلى منزل والديه ليُسّلم على والدته. وكانت منشغلة بالغزل ساعة وصول أبنها إلى دارها، ولم تلتفت إليه ولا أعطته أهتمامها!! ولما لاحظ أبنها (البطريرك) أنها لم تلاقه بما كان يتوقعه من ترحيب بالغ وفرح ظاهر وإعداد ما لذ وطاب من الطعام ودعوة الأهل والأصدقاء والجيران لمقابلة أبنها البطريرك والتحدث معه .. الخ، خُيل إليه أن الشيخوخة أقعدتها وحالت دون معرفتها إياه. فقال لها: (سلام لك يا أمى، ألا تعرفين من أنا؟ اننى أبنك. وقد تركتك لأعيش راهباً بسيطاً. وهوذا قد صرتُ خليفة لكاروزنا القديس مرقس المحبوب. ألا يسعدك هذا يا أمى؟). ولما قال هذا رفعت عينيها إلى وجهه، فراعه أن يرى دموعها تنهمر كالسيل وسألها: (ماذا بك يا أمى؟) أجابته: (انها لكرامة عظمى تلك التى نلتها وهى غاية فى السمو. ولكن مسئولياتها غاية فى الخطورة. وهذا ما يبكينى، كنت أفضل يا أبني أن يؤتى بك الىّ محمولاً على نعش ، خير من أن أسمع عنك أو أراك بطريركا، فلقد كنت فى الدير راهباً بسيطاً مسئولاً عن نفسك. أما اليوم – وقد نلت هذا المنصب العظيم – فقد أصبحت مسئولاً عن شعب الكرازة المرقسية. فليس أمامى الآن يا أبنى وسيدى إلا أن أمزج دموعى بصلواتى ضارعة إلى رب الكنيسة الذى منحك هذه الكرامة العظيمة أن يهبك من عنده نعمة تُمكنّك من القيام بما تقتضيه هذه الرعاية الخطيرة من مسئوليات جسام، فاذكر انك أمسيت فى خطر ، وهيهات أن تنجو منه) . . قالت له هذا وأخذت تشتغل كما كانت.

أما الأب البطريرك فخرج من عندها حزينا، وباشر شئون وظيفته، منبهاً الشعب بالوعظ والإرشاد، ولم يتعرض لشيء من أموال الكنائس، ولا وضع يده على أحد إلا بتزكية . وكان مداوما على توصية الأساقفة والكهنة برعاية الشعب وحراسته بالوعظ والتعليم.

لقد تجلت أمامه حقيقة بطريركيته أنها ليست رئاسة وراحة وأوامر ونواهى وسعى وراء سلطات زائلة وأمتلاك العديد من المقرات الرئاسية، فنقش كلمات والدته فى قلبه وظل يذكرها طيلة حياته وجعلها حافزاً له على الجهاد دون ملل ولا كلل. فقضى حياته يُعّلم الشعب ويحثه على مداومة قراءة الكتاب المقدس وتعاليم الآباء الأولين بكل أمانة بدون تحريف. كما أنه – حين كان يجد إيبارشية شاغرة – يصوم ويصلى مستلهماً إرادة الله فى اختيار من يصلح للجلوس على كرسى الأسقفية. وحينما تمتلئ نفسه ثقة واطمئناناً إلى أن الرب سيرشده إلى ما هو صالح كان يضع يده على من يختاره بفرح روحى عميق. وكان دائماً يردد فى نفسه قول السيد المسيح: (ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟).

لقد كانت لكلمات أمه الواعية سببا في استقامته وحرصه على إتمام واجباته نحو شعبه ونحو نفسه التى ينبغى أن تخلص، وهو الهدف الذى خرج لأجله من أجل الحياة الرهبانية الصادقة والأمينة.

وفى تلك الآونة اشتدت المنافسة بين الأمراء، فكان كل منهم يحشد جنوده ضد الآخر ويترك لهم العنان ليسلبوا ويقتلوا دون رحمة، فتجاوبت فى أنحاء القطر أصداء الألم وصيحات الحزن والفزع، كما أن الطبيعة أمطرت ذات ليلة عدداً كبيراً من الشُهب تساقطت فى سرعة وحِدة، فضاعف الناس فى الصوم والصلاة إلى حد أن الكنائس والجوامع كانت تزدحم بالناس حتى ساعة متأخرة من الليل طلباً لمراحم الرب. وقد استجاب الله إلى تلك الدعوات الصادقة وأرسل لهم والياً جديداً اسمه "الأخشيد"، فوصل إلى الفسطاط فى أغسطس 935م، الذى ثبت قواعد النظام وأعاد لمصر رخاءها خلال الإحدى عشرة سنة التى تولى فيها الأمور.

ووسط كل هذا المد والجذر، وتعاقب الفوضى والسلام، عكف البطريرك الأنبا مكاريوس الأول على الصوم والصلاة، ودعم أصوامه وصلواته بقيامه بزيارات رعوية لشعبه، وأكمل زيارته الثانية بزيارة ديره بوادى النطرون واقام به بضعة أسابيع. ولما رأى البابا الجليل السلام منتشراً فى ربوع مصر، أنشغل فى بناء عدة كنائس. وقد جلس على الكرسى البطريركى تسع عشرة سنة واحد عشر شهراً وثلاثة وعشرين يوماً (932 – 952م) خدم فيها شعبه بإخلاص زائد، فقد كانت الكلمات التى سمعها من والدته الواعية فى مستهل رياسته حافزاً على الجهاد المتواصل لعله يبلغ ما كانت والدته ترجوه لأجله فيؤدى حساب وكالته – أمام الله الديان العادل – فى ثقة أكيدة ونفس وادعة راضية. 

وفى 20 مارس 952م رحل إلى الأمجاد ليكافئ نظير أمانته الشديدة فى رعاية شعبه، ودفن في دير أنبا مقار بوادي النطرون، وعاصر خلال عهده من الملوك كل من: (القاهر - المعتضد - الراضي - المستكفي - المطيع - محمد الأخشيدي - أبو القاسم).