رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إثيوبيا.. الضلع الجنوبي لحلف الجوار

مهما حدث بين إسرائيل وبعض دول المنطقة العربية، من اتفاقات سلام وتطبيع وغيره، إلا أن تل أبيب تعتبر أن الدول العربية هي التهديدات المباشرة لأمنها القومي، مما يعني أنها ستناصر أي طرف غير عربي على نقيضه العربي.. ولعل أبرز انعكاسات هذه الاستراتيجية الإسرائيلية، العلاقات الوثيقة بين تل أبيب وأديس أبابا، والزيارات المتبادلة بين الطرفين، في مدى زمني يعتبر قصير نسبياً، التي ألحقت بدعوة وجهها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مباشرة، بعد نيله جائزة نوبل للسلام.!. ومنذ ذلك الحين، اتخذت إسرائيل من إثيوبيا معبراً إلى بقية الدول الإفريقية، خصوصاً دول شرق إفريقيا والبحر الأحمر، بما فيها دول حوض النيل الشرقي، وفي سبيلها إلى ذلك، عملت تل أبيب على تنسيق الاستراتيجيات الثنائية مع إثيوبيا لتسهيل التعامل مع أي صراع قد يحدث بين دول المنبع والمصب حول مياه النيل، وقد ساعد إسرائيل في ذلك، قلة الخبرة الفنية لدى إثيوبيا وضعف إمكاناتها الاقتصادية وحاجتها للمساعدات التي تمنحها لها إسرائيل منذ التسعينيات، في نواح عدة زراعية وصحية وتنموية وفنية وعسكرية.. وبالرغم من نفي السفارة الإسرائيلية في القاهرة، صحة الأخبار التي تم تداولها، حول وجود أنظمة دفاعية إسرائيلية لحماية سد النهضة في إثيوبيا، على لسان (ماتي أنبار)، مسئول الصناعات العسكرية الاسرائيلية، فإن عدم وجود بطاريات الصواريخ حول السد، لا ينفي وجود تعاون في المجالين الأمني والعسكري بين الدولتين.
تعود العلاقات الإثيوبية ـ الإسرائيلية إلى فترة الخمسينيات من القرن الماضي، وتعد من أقدم العلاقات الدبلوماسية لإسرائيل مع دولة إفريقية، وقد شهدت قفزة منذ عام 1984 في عهد الرئيس مانجستو هيلا ماريام.. وتطورت عام 2004، حينما أعلنت إسرائيل عن نيتها تطوير الصناعة والزراعة في إثيوبيا، عن طريق استخدام التكنولوجيا الزراعية وأرسلت وفداً اقتصادياً من 22 شخصية اقتصادية كبرى لهذا الغرض.. وفي عام 2014 تقدمت أكثر من مائتي شركة إسرائيلية للحصول على تراخيص تجارية للعمل في مجالات مختلفة في إثيوبيا.. كما شهد عام 2016 زيارة نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل للعاصمة أديس أبابا، حيث وقع مع رئيس الوزراء السابق هيلا ماريام ديسالين عدة اتفاقيات، تتعلق بدعم التعاون في مجالات التكنولوجيا والزراعة، والسياحة، والاستثمار.. كما دعمت إسرائيل وزير الخارجية الإثيوبي تيدروس أدهانوم المرشح ـ حينذاك ـ لرئاسة منظمة الصحة العالمية، وهو المنصب الذي فاز به عام 2017.. وتسعى إسرائيل إلى زيادة حجم التبادل التجاري مع إثيوبيا، وتعظيم الاستثمار في أراضيها.
وقد مرت هذه العلاقة بمحطات مهمة، منها وقوف إسرائيل إلى جانب إثيوبيا إبان الحرب مع إريتريا، إضافة إلى تلك الفترات التي بعثت خلالها إثيوبيا بيهود الفلاشا إلى الأراضي العربية المحتلة للانضمام إلى الكيان الصهيوني، منذ عقد الثمانينيات مروراً بعقد التسعينيات من القرن الماضي، الذي شهد وصول أربعة عشر ألف يهودي إثيوبي للأراضي العربية المحتلة خلال 36 ساعة، وصولاً للعقد الأول في الألفية الثالثة، الذي شهد تدفقاً كبيراً من المهاجرين الإثيوبيين إلى إسرائيل.. وقد أدى ذلك إلى تواجد إثيوبي كبير في المجتمع اليهودي، يقدر بـ140 ألف نسمة، طبقا لبيانات مركز التعداد والإحصاء الإسرائيلي.
وترى إسرائيل في هذا النمط البراجماتي، فرصة ذهبية للتعمق في القارة الإفريقية، والوقوف لمواجهة ما تراه (خطراً إيرانياً) يتهدد مصالحها في تلك المنطقة الحيوية، وهي محاولة أيضاً لتطويق المنطقة العربية والسيطرة على المفاصل الجغرافية المهمة ذات الصلة بها.. ويعد التعاون الأمني الذي يحرص الطرفان، الإسرائيلي ـ الإثيوبي على تطويره، من أهم وأخطر توابع هذه العلاقة على المنطقة، حيث ترى إثيوبيا في إسرائيل شريكاً أمنياً ومصدراً للاستثمار، وهو ما جعل آبي أحمد رئيس الوزراء يقول: (أريد بث الروح فى علاقتنا الثنائية وفق المصالح المشتركة وتوجيهها نحو الشراكة الاستراتيجية)!!.. بينما تعتبر إسرائيل أن آبي أحمد أحد القادة الأكثر تأثيراً في القارة السمراء، وفق تصريحات نتنياهو، حيث ترى تل أبيب في بلاده، نقطة ارتكاز مهمة للتوغل في المناطق الحيوية بالقارة.
عندما تولى آبي أحمد رئاسة الوزراء في بلاده، ظن الكثيرون في المنطقة العربية والإسلامية، أن ذلك سيحدث تغييراً جوهرياً في السياسة الخارجية الإثيوبية، خصوصاً ما يتعلق بمسألة التعاون مع الكيان الإسرائيلي، لكن السياسة لا تعرف إلا لغة المصالح والمنافع المتبادلة التي تحرك دفة التوجهات السياسية.. من هذا المنطلق، دفعت مجموعة من الظروف التي تمر بها إثيوبيا في الداخل، إلى تحرك آبي أحمد بحثاً عن شركاء من خارج منطقة القرن الإفريقي، بل ومن خارج القارة الإفريقية كلها، لاستكمال المشروعات القومية المعطلة وتحقيق الإنجازات التي يطمح لتحقيقها، أملاً في استمراره رئيساً للوزراء.. ولذا، فقد لقيت زيارة آبي أحمد لإسرائيل ترحيباً إسرائيلياً كبيراً لأهميتها في تحقيق أجندة إسرائيل المتعلقة بالعودة لإفريقيا، وتعميق تواجدها في منطقة حيوية من القارة السمراء، وهي منطقة القرن الإفريقي، وهو ما اعترفت به إسرائيل في بياناتها الرسمية.. وهناك التقى آبي أحمد مع نتنياهو في زيارة تزامنت مع أحداث ساخنة كانت تشهدها المنطقة.
لا شك أن آبي أحمد يتحرك وفق ما يتمتع به من شخصية براجماتية، أهلته للصعود لمنصبه، كاسراً احتكار إحدى قوميات بلاده لهذا المنصب لسنوات طويلة، وذلك لأنه ينتمى لقومية الأورومو ذات الأغلبية الشعبية، في مقابل أقلية التيجراي التي كانت تسيطر على الحكم قبل آبي أحمد، كما ساعدته تلك الشخصية على إدارة شئون بلاد.. ووفقاً  لهذه العقلية، كان تحرك رئيس الوزراء الإثيوبي نحو إسرائيل محققاً عدة أهداف في خطوة واحدة، كان أبرزها، غلق ملف أزمة (يهود الفلاشا) وسد الطريق على أي فرصة تعكر صفو العلاقة مع الحليف الإسرائيلي الذي يحتفظ معه بعلاقة تاريخية.
من خلال نظرية (شد الأطراف)، عملت إسرائيل علي توثيق علاقات التعاون والتحالف مع أهم الدول المحيطة بالعالم العربي، تطبيقاً لهذه السياسة التي صاغها بن جوريون بعد اغتصاب الأراضي الفلسطينية، واستهدفت إقامة ما عرف بـ (تحالف المحيط)، وهي استراتيجية سياسة خارجية، دعت إسرائيل إلى تطوير تحالفات استراتيجية وثيقة مع الدول الإسلامية غير العربية في الشرق الأوسط، للتصدي للدول العربية الموحدة تجاه معارضة وجود إسرائيل؛ والدول التي توجهت إليها الأنظار كانت تركيا أولاً، وإيران ثانياً، وإثيوبيا ثالثاً.. وهو ما اعتبره البعض الركن الركين في جدار السياسة الخارجية الإسرائيلية؛ ففي منتصف خمسينيات القرن الماضي نجحت الجهود الإسرائيلية في إقامة علاقات خاصة مع تركيا في مختلف المجالات.. بعد ذلك مباشرة بدأ التحرك صوب إيران، الذي أداره فريق من الخبراء الإسرائيليين، كان بعضهم من أصول إيرانية.. ولاستكمال بناء صرح (حلف الجوار) للاستعانة به للضغط على العرب وتهديد أمنهم، جرت اتصالات نشطة مع إثيوبيا، علنية وسرية، لكي تكتمل زوايا المثلث عند مركزه الجنوبي من الوطن العربي، بعدما اكتمل من ناحيتيه الشرقية والشمالية.. ومازالت المؤامرة مستمرة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.