رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخوف.. الفكرة الهلامية السوداء.. والأغراض السياسية!

قال العقاد: الخوف من الموت غريزة حية لا معابة فيها، وإنما العيب أن يتغلب هذا الخوف علينا ولا نتغلب عليه!
وقال صلاح جاهين:سهـِّـيـر ليـالى ويـامـا لفيـت وطفـت
وف ليلـه راجـع فى الضـلام قمـت شفت
الخـوف . . كأنـه كلـب سـد الطريق
وكـنـت عـاوز أقتـله . . بس خفـت
عـجبى ! وعند العقاد أيضا في تطوافتنا حول استبيان الخوف

ان" النفس الإنسانية يتنازعها عاملان قويان ، هما حب الحياة و الخوف من الموت ، و بهذين العاملين يتعلّق الشعور بالجميل و الجليل ؛ فالجميل كل ما حبّب الحياة إلى النفس و أظهرها لها في المظهر الذي يبسط الرجاء فيها و يبعث علي الاغتباط بها ، و الجليل كل ما حرّك فيها الوحشة و حجب عنها رونق الحياة ؛ فالربيع و الصباح و النور و الصحة و الشباب و الحركة و المناظر الرائقة و الخضرة و الأبنية المزخرفة ، كلها جميلة ؛ لأنها تنعش الحواس و تذّكرها بالحياة ، و الشتاء و الليل و الظلمة و المرض و الهِرم و السكون و القفار المخيفة و الأطلال الدارسة و الصروح القوية المتينة التي تنبيء بتعاقب السكان عليها و المعابد و الهياكل و القوى الطبيعية الهائلة ، كلها جليلة ؛ لأنها تقبض الحواس و تميل بالنفس إلى التضاؤل و الضِعة أمام رهبة الفناء و عظمة الطبيعة و ضخامتها . 
الجميل مظهر القدرة و الجليل مظهر القوة ؛ و النفس تقابل القدرة بالإعجاب ، و القوة بالخشوع !" " خلاصة اليومية و الشذور ".
إذن فالإنسان : كتلة من اللحم والدم .. والشعور !والشعور هو ترجمة للمشاعر، التي تتأرجح فى خيالاته وأفكاره صعودًا وهبوطًا طيلة حياته القصيرة على الأرض؛ بين نزعة  الحُب والكراهية والطموح والطمع والرغبة والشهرة والمال والمنصب والسلطة والسفر؛ ليظل حائرًا تائهًا بين النفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء؛ كأنه قطعة الحديد المصهور بين المطرقة والسندان !!  ولكن يبقى شعور "الخوف" هو المسيطر على الوجدان وسط كل تلك الخيالات والأمنيات و التطلعات، فإذا جاز لنا أن نرمز بالألوان لكل مشاعر الإنسان؛ فسيكون "الأحمر" هو رمز الخوف الدائم والمستمر، الذي يبرق في الخاطر، كأنه ناقوس الخطر الذي لايهدأ ولا يتوقف !

فالخوف احساس قوي ومزعج تجاه خطر ما، إما حقيقي أو خيالي، وهو العدو الأعظم للإنسان ؛ والسبب وراء الفشل والمرض والخلل الذى ينتاب العلاقات الإنسانية في مراحل العمر المختلفة، فالعوامل المسيطرة هي الخوف من الماضي، والمستقبل، والمرض، والشيخوخة، والفقر، وشبح الموت بالضرورة، فالخوف هو "الفكرة الهلامية السوداء" التي تحتل الدماغ وتسيطر عليه، وربما تكون هي مصدر "خميرة العكننة" في كل تصرفات الإنسان  !

ناهيك عن الخوف الذي يبثه " الغير" في النفوس ؛ بغية الوصول إلى تحقيق أهداف سياسية، أو حزبية، أو اجتماعية، أو اقتصادية؛ للسيطرة على توجيه الإحساس الجمعي وترهيبه؛ والزج بالمجتمع لاعتناق الأفكار التي يريد فرضها عليه، وغالبًا فإن من يعتنق مباديء بث الخوف والرعب والترقب في أرجاء الوطن؛ لايكون من حملة الأهداف النبيلة التي تخدم الصالح العام؛ ولكنه يعمل على سيطرة فئة ضئيلة منفلتة بعيدًا عن القوانين والتقاليد والأعراف، ويلجأ ـ من عقدة الضآلة ـ إلى تفعيل ونشر الخوف في عقول وأرواح بقية المجتمع، ليصيبه بما يشبه الشلل في التفكير والإبداع؛ ويقتل التطلع إلى الارتقاء والسمو؛ ويصبح المجتمع رهينة لكل الأفكار السوداوية الرجعية المناوئة لأهداف الدولة التي تعمل للوصول بالمجتمع إلى الرفاهية المنشودة؛ وتحقيق المرادف للخوف وهو " الأمان" و " الاستقرار" الذي في أجوائه يتولد الإبداع وزيادة مصادر المعرفة ؛ وتهيئة المناخ الذي يحقق كل برامج التنمية

ولكني لا أنظر إلى المجتمع بنظارتي السوداء فقط، بل أجنح إلى الرؤية المعتدلة  السوية للإضاءة على نوع آخر من أنواع الخوف؛ وهو الخوف الإيجابي ونزعته الفطرية في روح الإنسان السوي العاقل المتولد من الذات؛ وهو أرقى أنواع الخوف الذي ينأى بصاحبه عن كل الأعمال غير الإنسانية وغير النبيلة، ويتمتع صاحبه بيقظة الضمير والأيادي النظيفة التي لم تتلوث لا بأموال الآخرين ولا بدمائهم، وهذا الخوف نابع من إرضاء الضمير والمحافظة على السمعة والشرف .هذا الإحساس الذى نستبدل معه كلمة " الخوف " بكلمة سامية رفيعة من روائع لغتنا العظيمة ؛ وهي كلمة " خشية الله"؛ وهو الخوف الراقي الذي كلما ازداد؛ ازدادت معه فرص النجاح والفلاح والتقدم المادي والمعنوي للفرد والمجتمع . 
ولعل " تفسير القرطبي" لـ "سورة قريش "  ؛ تعطينا الدلالة الواضحة الجلية لما كان عليه المجتمع المؤمن الذى يتمتع بخشية الله في ذاك الزمان .. قال المولى عز وجل عنهم : لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴿١﴾ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴿٢﴾ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ ﴿٣﴾ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴿٤﴾ ! و "الإيلاف" فى تفاسير اللغة هو "الإجارة"؛ أي منح الأمان والسلامة والحماية.

ومما لاشك فيه أننا بحاجة ماسة إلى الخوف الإيجابي في سلوكياتنا الحياتية، ونبذ كل مايؤدي إلى وساوس الخوف السلبي الذي يعيق حركة الزمن والتاريخ والإنسان ؛لنصل إلى كل مانصبو إليه من ارتقاء وسمو  لصالح المجتمع ، وليصبح العقل الجمعي متمتعًا بكل الأمان والطمأنينة، ويكون إعمال العقل هو الحاكم والمسيطر على كل المقدرات والخيرات في أرجاء الوطن . فلنقتل الخوف المحطم للهمم من داخلنا مع يقظة ضمائرنا وتفانينا في العمل حتي نستطيع كسر كل الحواجز والمعوقات النفسية التي تقف حجر عثرة أمام بلوغنا القمم المأمولة التي نبتغيها محققة علي أرض الواقع لبلادنا المنهكة من كثرة ماتقاومه من مخططات التقويد والإضعاف المتلاحقة فلنسعفها بشجاعتنا وقهرنا لكافة الصعوبات .وتحضرني مقولة د.مصطفي محمود :" إنك لن تدرك مدى خوفك و لا مدى شجاعتك إلا إذا واجهت خطراً حقيقياً و لن تدرك مدى خيرك و مدى شرّك إلا إذا واجهت إغراء حقيقياً ".
لذا علينا أن نتعلم كيف نواجه ضغوط الحياة اليومية ونتعامل معها، ونحدد أهدافا واقعية، وننظر للتغييرعلى أنه تحد إيجابى وليس تهديدا، ونسعى لحل خلافاتنا مع الآخرين، وتعزيزالعلاقات الاجتماعية الآمنة، الانخراط فى العمل التطوعى والاجتماعى ، وإعادة النظر في مشكلاتنا وننظر لها من منظور مختلف قابل لإيجاد الحلول، وفعل كل ما من شأنه أن يبث السكينة والشعور بالأمان والطمأنينة والراحة النفسية الطاردة للمخاوف.
ليتنا نقهر الأخطار الحقيقية التي نحن بصددها في هذه الآونة بكل مانحمله من جينات الخير والعطاء لنحيا وتحيا مصرنا المحروسة في سلام وأمن وأمان برغم أنف مهاطيل زبانية الشر    !

أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي  ـ أكاديمية الفنون