رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«قبلة المصريين».. مشاهد من «تراويح» الجامع الأزهر

جريدة الدستور

ليست مجرد صلاة، السجود والركوع فى رحابه لهما هيبة وبهاء، الدعاء والخشوع يمتزجان بتاريخ طويل من نشر العلم والتفقه فى دين الله، ولا يدخل المصلون الجامع الأزهر لقضاء صلاة التراويح فى مسجد تاريخى فقط، وإنما يعبدون الله فى ثانى أقدم جامعة نظامية عرفتها البشرية، لذلك فإن إظهار الاحترام والإجلال حق واجب.

تلك المنارة الأزهرية المصدر الأول لرجال الدين ليس فى مصر وحدها، وإنما فى سائر البلدان العربية والإسلامية، فى آسيا وإفريقيا، يقف شامخًا فى المنطقة التى سميت على اسمه اعترافًا بفضله، وكما جاءت مصر أولًا ثم جاء التاريخ ليحكى عنها، بُنى الجامع الأزهر أولًا ثم أقيمت القاهرة بأكملها على جانبيه.

وفى شهر رمضان المبارك تنتقى وزارة الأوقاف أفضل الشيوخ والأئمة لصلاة التراويح، حيث يتسابق المصلون لحجز أماكنهم بعد الإفطار مباشرة، حتى يكونوا خلف الإمام، يستمعوا لصوته العذب فى تلاوة القرآن، لتخشع قلوبهم لله ويتدبروا آيات الذكر الحكيم.

 

تراويح الجامع الأزهر

 

 

الصلاة ٨ ركعات لأول مرة.. والصفوف الأولى يتصدرها «العمة والكاكولا»

اعتاد المصلون على الصلاة التى تشبه إلى حد كبير صلاة القيام فى الحرم المكى، فالصلاة فى الجامع الأزهر لا تقتصر على ثمانى ركعات، كما هى الحال فى باقى المساجد الأخرى، وإنما تمتد إلى اثنتين وعشرين ركعة، مع قراءة جزء كامل من القرآن الكريم فى الليلة الواحدة، حتى يُتم الإمام قراءة القرآن كاملًا مع نهاية الشهر الكريم.

وبسبب فرض الإجراءات الاحترازية هذا العام فى أول صلاة تراويح جماهيرية تقام بالجامع الأزهر بعد عام الإغلاق، اضطر الإمام إلى أداء صلاة القيام مقتصرًا على ثمانى ركعات فقط، حتى لا تزداد فترة بقاء المصلين فى المسجد مما يعرضهم لخطر الإصابة بفيروس كورونا.

وغيرت الإجراءات الاحترازية بعض مشاهد الصلاة المعتادة داخل الجامع الأزهر، فلم يعد هناك مصلون يستلقون على ظهورهم يشعرون بالسلام بعد الصلاة، وينظرون إلى سقف المسجد، أو إلى السماء إذا صلوا فى الساحة المفتوحة للمسجد، ولم تعد هناك خطبة قصيرة تُوعظ المسلمين وتفقههم فى أمور دينهم.

أما الذى لم ولن تغيره ظروف انتشار الوباء، فهى الصفوف الأولى خلف الإمام، والتى يصطف فيها طلاب وعلماء الأزهر بلباسهم التقليدى «العمة البيضاء التى تتوسطها الطاقية الحمراء، والقفطان الأسود»، فهم أبناء المكان وطلابه، ولهذا يأتون مبكرًا ليكونوا واجهة مشرفة للصلاة فى الجامع العتيق.

ولا تقتصر الصفوف الأولى على الكبار من خريجى الأزهر فقط، وإنما بعض الشباب والأطفال من طلاب المعاهد الأزهرية، حديثى السن، ودائمًا ما يمازحون المصلين بقولهم «إحنا لابسين العمة والكاكولا»، فى إشارة منهم إلى حضورهم الصلاة بالزى الأزهرى الرسمى، ومن حقهم الوجود فى الصفوف الأولى.

أما المشهد من أعلى المسجد فوضّح التزام المصلين بالتباعد الاجتماعى، وكأن مجموعة من المهندسين قد رسموا خطوطًا دقيقة ليلتزم بها المصلون، فالفوارق منضبطة متساوية، والكل يحافظ على حياته من خطر لا يُرى بالعين المجردة.

 

 

تراويح الجامع الأزهر

 

منافسة مشتعلة مع الحسين لجذب المصلين

أمام الجامع الأزهر مباشرة محطة مخصصة لنزول الركاب من المواصلات العامة المختلفة، وبمجرد نزولهم يجدون الجامع الأزهر على يمينهم، وعلى يسارهم مسجد الحسين، لتبدأ أرواح القادمين للصلاة فى الحيرة بين الصلاة فى منارة العلم أو فى رحاب حفيد رسول الله.

وكأنّ المسجدين يتنافسان فى جذب المصلين لأداء صلاة التراويح فى شهر رمضان المبارك، وتشتعل هذه المنافسة منذ النداء الأول للصلاة، حيث يبدأ المصلون فى الاختيار بين أعذب الأصوات وأكثرها تأثيرًا فى القلب والروح.

يمتد فتيل هذه المنافسة الإيمانية بين المسجدين ليطال الطلاب الوافدين للدراسة فى جامعة الأزهر، فهم قادمون من أكثر من ١٠٠ دولة حول العالم، ويشغلون عددًا لا بأس به من الصفوف فى الصلاة، ووجودهم يعطى تنوعًا واختلافًا ثقافيًا داخل المسجد الواحد. ويفضل بعض الطلاب الصلاة فى جامعهم وجامعتهم، ويذهبون للأزهر، فيقفون إلى جانب بعضهم بعضًا، فمنهم آسيوى وآخر إفريقى، وثالث مصرى، ورابع أوروبى، وجميعهم يطيعون الإمام ويتبعون خطواته ولا يخرج أحد عن وتيرة الصلاة، ولا سبيل للتفرد والأنانية، الكل سواء، والجميع آمن فى رحاب الله. أما من تأخروا عن اللحاق بركب الصلاة فى الجامع الأزهر فينطلقون بأقصى سرعة ممكنة لديهم لحجز مكانهم فى مسجد الحسين، حتى ينالوا بركة سبط رسول الله، ويؤدوا الصلاة قريبًا من جامع الأزهر، فغالبية أصوات المؤذنين والأئمة تختلط بعد دقيقة واحدة من بدء الصلاة، ولا فرق بين فاتحة الكتاب هنا وهناك.

 

تراويح الجامع الأزهر

 

مُصلَّى السيدات يفتح أبوابه.. والإقبال متوسط حتى الآن

استقبل الجامع الأزهر السيدات اللواتى اشتقن لإقامة الصلاة بعد فترة طويلة من الهجر لجميع الأماكن المخصصة لصلاة السيدات فى كل المساجد، وبعد افتتاح بعضها بالتزامن مع بدء شهر رمضان المبارك هذا العام تهافتت أرواحهن لإعادة إحياء عاداتهن القديمة. وحرصت السيدات على الحضور مبكرًا ومعهن سجادات الصلاة الملونة والأقنعة الواقية، وزجاجات الكحول فى حقائبهن، واستعددن لإقامة الصلاة، وارتدين أفضل ما لديهن من الثياب المخصصة للصلاة، فكانت ألوانها زاهية مبهجة تعبّر عما يدور فى نفوسهن من السعادة الغامرة. 

واصطفت الكراسى المخصصة لكبار السن من السيدات كالعادة كل عام، ولكن هذه المرة لن تكون ملتصقة، ولن يشدد الإمام على ضرورة تساوى الصف والتصاق الكعوب حتى لا يدخل الشيطان من بينها، هذه المرة حرص عمال المسجد على وضع الكراسى متباعدة حيث تنطبق عليها إجراءات التباعد مثل المصلين، وتحصل على جلسة تطهير وتعقيم بعد انتهاء كل صلاة خوفًا من انتقال العدوى بين كبار السن إثر لمسها أثناء الصلاة. ولن تتسنى للسيدات الفرصة هذا العام فى خوض الحديث عما دار فى يومهن، ولن يتعانقن أول كل ليلة كعادتهن، ولن يتجاذبن أطراف الحديث عن الأحوال والأبناء، وكيف مرت بهن السنون لهذه الدرجة حتى وجدن أنفسهن يُقِمن الصلاة وهن جالسات على المقاعد.