رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انا "أفعل" الكتابة وليس فقط أن "اكتبها"


 
أن أفعل الكتابة وليس فقط أن أكتبها، لماذا أكتب ولماذا أستمر فى الكتابة، ما جدوى الكتابة؟، إلى متى أظل متشبثة بالقلم، ماذا تأخذه الكتابة وماذا تعطيه؟


هذه تساؤلات تجتاحنى من حين لآخر ولكنها اليوم أشد إلحاحًا وإصرارًا، ولها كل الحق فالعالم يبدو أكثر من أى وقت مضى أنه يحتاج الأسلحة لا الأقلام، يحتاج أن ينام فى غيبوبة لا أن توقظه أجراس الكلمات.
 

عالم يسعده شهداء الألغام ليس شهداء الغرام، يزرع الفتن بدلًا من زراعة القمح، يتفنن فى صناعة الكذب والتعاسة لا في صناعة الحقيقة والسعادة، عالم يجهل أبجدية الكتابة لا يقرأ إلا أبجدية العنف، فلوس الإعلانات الرأسمالية المتوحشة فوق كل اعتبار تقتحم بيوتنا من تحت عقب الباب، تستخدم ممثلات وراقصات وممثلين ثقيلى الدم باسم شهر رمضان لترويج البضائع وكروت الشحن وزبادى يسهل عملية الهضم بعد الإفطار والسحور.


لماذا أكتب؟ ولماذا أستمر فى الكتابة فى أزمنة الدم وتكفين النساء وهن أحياء؟ ما جدوى الكتابة فى عصر الاستعمار الإلكترونى للعقول والمشاعر وتفتيت الأوطان وتجنيد مرتزقة الدول الدينية والاستثمار فى تجارة فاسدة باسم الذات الإلهية العليا والرسل والأنبياء؟


أين تذهب الكاتبات والشاعرات فى عالم يكتظ بالملايين الذين يريدون بيتًا حقيقيًا وليس بيت شِعر أو بيت من حروف وكلمات؟


رغم وجاهة ومنطقية تساؤلاتى عن جدوى الكتابة، إلا أننى سأحمل لها الإجابة المتكررة نفسها، إنما أكتب وأستمر فى الكتابة لأنها هى التى "اختارتنى" ولست أنا التى اخترتها مصيرى وحياتى وقدرى.. وما انصياعى لاختيارها إلا محاولة لمعرفة سبب هذا الاختيار وكلما تذكرت البداية تأكدت أكثر أنه لا مهرب من سُلطة الكتابة ولا مفر من ديكتاتورية القلم، رغم نفورى من كل أنواع السلطة وكراهيتى لجميع أنماط الديكتاتورية.
 

مُسيرة لا مُخيرة، ورغم ذلك أشعر بأننى "مسئولة" عن كل حرف أسطره، ربما أكتب لأن الكتابة عندي مثل التنفس، ربما أكتب لأن الكتابة تصنع وجهى وترسم ملامح، أكتب ربما لأقول أننى أكبر وأهم من غشاء البكارة ورحم الإنجاب، وأننى بعد خلع الجسد الفانى ما زال لى بقية من كلمات وغناء وتساؤلات وبكاء، أكتب  لأنني أشعر بأن الكتابة هي فضيلتي الوحيدة فى عالم يزهو بخطاياه التى تحجب عنى الشمس والهواء.


بالكتابة أصبح فوق العالم لا أخاف أحدًا أو شيئًا حتى الموت أروضه فيذهب يعد لى القهوة بينما أواصل كتابة القصيدة، عناقى الحميم بالقلم هو ما يجعل "أنوثتى" حقيقة مثبتة موثقة لا أشك فيها وليس عناقى الحميم بالرجل.


كإنسانة أريد التحرر من أشكال الحياة المتوارثة التي تركن إلي الاستقرار وتعادي الدهشة والمخاطرة، كامرأة أريد التحرر من كتالوج  الأنوثة المعتق الذي يطالبني دائمًا بالابتسام والتجمل والسعى المتواصل لإرضاء الجميع، والكاتبة والشاعرة داخلى تريد التحرر من قواعد النقد السلفية الذكورية ومعايير تكريم الكاتبات واستضافة الشاعرات فى مؤسسات الثقافة ومعارض الكتب وندوات لجان الشِعر وبرامج القنوات الأدبية.


إن تحرير الذات- في رأيي- هو تجربة فردية محضة تمامًا كالموت فكما أن أحدًا لا يمكنه أن ينوب عن آخر في الموت، لا أحد يمكنه أن ينوب عن أحد في مسألة التحرر.


لست أؤمن بتحرير الذات من خلال الأحزاب والتنظيمات السياسية أو أي عمل جماعي آخر، الثورة كما أفهمها هى نتاج تطور وصراع لحركة داخلية في عقل ووجدان الإنسان تجاه العالم وتجاه ذاته، وليس الإطاحة بسلطة خارجية والإتيان بأخري جديدة مختلفة، أنا بالطبع لا أقلل من العمل الجماعى الساعى نحو الحرية لكننى أضع المسئولية الأولى على الفرد.


أنا أكتب إذن لأن الكتابة هي سلاحي الوحيد الذي أملكه وأؤمن به لكي أحرر ذاتي واكتشفت بمرور الوقت أن تحررى بالكتابة مرهون بأن "أفعل" الكتابة، لا أن أكتبها فقط وحينما "أفعل" الكتابة فإننى- شئت أو أبيت -  أحُدث تغييرًا وأصنع فارقًا فيما حولى من أشياء.


وفى هذا الزمن الذى تكتنفه الأخطار وتعم فيه الفوضى وتتهاوى أجمل المعانى تحت حصار الدم يصبح من الضرورى أن أجد ركنًا واحدًا أطمئن إليه يمنحنى الدفء والحنان ويواسينى بأصدق العزاء، هو وطنى وجسدى وبيتى.. وأٌقصد به "ورقة الكتابة" أكتب وأواصل التشبث بالقلم لأن "الكتابة" تغمرنى بفيض من لذة طاغية تغرق العبث واللا جدوى وتخفف قليلًا "الألم" الساكن قلبى.
من بستان قصائدى
لكل إنسان فوق الأرض عفريت
يخرج له من تحت الأرض يخرب البيوت
يصطاد فى الماء العكر ثم يرجع تحت الأرض
وأنا ابتلتنى الأقدار بعفريت جبار
دائم التخريب.. فى الليل والنهار
لا يتعب ولا يأخذ إجازة.. أصبح صديقى.. وله أدمنت الانتظار.