رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: هزمه قلبه.. والحلم بـ«الونس»



أخذ الشيخ «آدم الكبير» يتمتم بصوت غير مفهوم: «ذنب حسن الترجمان أنه كان يشعر بالضعفاء ويرق قلبه لهم».. يسأله الحفيد عما يقوله ولا يسمع إجابة.. يحاول أن يحرك جسده يشعر بأنه ليس منه.. يتأفف ويسأل: هل أصبت بالشلل؟.. أشعر بأن جسمى ليس منّى.. ورغم ذلك يوجعنى.. ينظر يجد أمامه شخصًا لا يميز ملامحه.. هل هو جده الترجمان أم جده آدم أم شخص ثالث؟.. يشعر بشىء يوخز جسده.. يتوجع ويئن أنينًا خافتًا.. يشعر ببعض الراحة.. ينظر إلى جده فيراه بصفاء ويقول له:
الشاب: واضح إن مراة جدى حسن كانت «آخر سيطرة».. وجدى كان «ذائب» فى كعب رجليها.
الشيخ: كان يحتاج إليها أكثر مما يحبها.. والاحتياج أشد فتكًا بالرجل من الحب.. كان وحيدًا يريد الأنس بالزوجة والولد.
الشاب: الإنسان لازم يعيش بقلب ميت.
الشيخ: من لم تشغله الطاعة شغلته المعصية.. لم يكن فى مقدور الترجمان أن يعيش بوجدان ميت.
يظهر «الترجمان» وهو يتنقل بين عدد من الحوانيت بشارع الحمزاوى.. يمسك دفاتر حساب المحل ويغرق فى تدقيقها.. ثم ينتقل إلى المحل الذى يليه.. إلى أن يصل إلى دكان عطارة كبير، قبل أن يدخله يستوقفه شخص يظهر عليه علامات الضعف والهزال.. ويقول له أريدك فى كلمتين:
الرجل الغريب: اسم الكريم حسن.. أليس كذلك؟.
الترجمان: نعم.. أى معروف يمكن أن أبذله لك؟.
الرجل الغريب: محسوبك عزالدين أمين الألفى.
الترجمان «بتوجس»: هل أنت ابن أمين بك الألفى المملوك الذى قفز بحصانه من فوق القلعة يوم مذبحة ١٨١١؟.
الرجل الغريب: نعم.. ولعلك تعلم أن ولى النعم عفا عنّا.. وأنا الآن كما ترى.. هاجر أبى إلى الشام وناداه الموت واستقرت عظامه فى ترابها.. وتركنى هنا وحدى أكاد أتسول اللقمة.
الترجمان «وقد رق له»: أنا تحت أمرك فى أى مساعدة.
الرجل الغريب: دام كرمك.. الستّار موجود.. لقد جئت لأساعدك أنت لمّا سمعت عن أمانتك.
الترجمان: خيرًا.
الرجل الغريب: سمعت من بعض التجار هنا أنك تجيد الفرنساوية.. وقد أخبرنى أحد معارف أبى الراحل ببلاط الوالى أنهم يبحثون عن ترجمان فرنساوى.. فقلت أخبرك بالأمر.. فقد يكون لك فيه لقمة عيش.
الترجمان «بتأفف»: لا أريد العودة إلى هذا العمل.. لله الحمد والشكر.. عملى حاليًا يسترنى.
الرجل الغريب: سترك الستير دنيا وآخرة.. ولكن قد يجعل الله ستر غيرك على يديك لو عملت ترجمانًا ببلاط الوالى.
الترجمان: لا أفهم مقصودك.
الرجل الغريب: لقد قلت ما عندى.. أستودعك الله.
يظهر حسن جالسًا فى بيته وعلى حجره ولده الرضيع يداعبه بسعادة.. تدخل عليه زوجته متأففة كعادتها فيدعوها إلى الجلوس ليسر إليها بحديث «المملوك الجركسى» الذى قابله فى شارع الحمزاوى.
الترجمان: ما رأيك؟
الزوجة: وافق طبعًا.
الترجمان: لكننى أخذت عهدًا على نفسى ألا أعود إلى هذا العمل بعد واقعة «الحلبى».
الزوجة: اسمع يا حسن.. أنت «غريب».. وأبى على قد حاله كما تعلم.. ماذا ستترك لهذا الصغير ولمن ستنفضهم من ظهرك؟.. الحياة لا تطمئن إلا بالمال.. وعلى رأى المثل «الحظ مع الغريب».. ألا تسمع عن المغاربة أولاد الشرايبى وتلال الأموال التى ورثوها عن أبيهم.. ألست مغربيًا مثله؟.
الترجمان: لقد رق قلبى للجركسى.. وودت أن أساعده بالمال.
الزوجة: إنه هو الذى يساعدك ويفتح لك باب رزق جديدًا.. إياك والنمردة.
الترجمان: ربنا يقدم ما فيه الخير.
يضحك «آدم الحفيد» وهو يسمع هذا الكلام.. ثم يقول لجده: «واضح أن الترجمة كانت مربحة جدًا فى هذا العصر».. المصيبة فى أيامنا.. خلاص كله شغال على الترجمة ببرامج الكمبيوتر.
يبتسم الجد لآدم.. ويصمت قليلًا.. ثم يقول: رحم الله الترجمان، لقد هزمه قلبه وقتله احتياجه للونس.