رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مزمار داود».. «الدستور» تكشف حكاية 30 ساعة تسجيلات نادرة «حبيسة الأدراج» للشيخ محمد رفعت

محمد رفعت
محمد رفعت

حين تسمع آيات القرآن الكريم من أى قارئ فإنك ستسمعه بأذنك وبعدها ستفتح لها طريقًا إلى القلب لتستقر، إلا الشيخ محمد رفعت، فهو الوحيد الذى ستسمعه بقلبك منذ اللحظة الأولى.. هو الوحيد الذى لن يستأذن ليستقر صوته فى قلبك.. هو الوحيد الذى سيجعلك تغلق عينيك وتهيم من شدة الوِجد.

لم يكن صوته عاديًا، بل كأنه مزمار من مزامير نبى الله داود اختصه به دون غيره، بكل ما فيه من جمال وأداء فائق الروعة، جعلاه شيخ المشايخ وأسطورة قراءة القرآن الكريم، ليس فى مصر فحسب، بل فى العالم الإسلامى ككل.

هو الذى حين نعثر له على ساعة إضافية من نوادر قراءاته للقرآن الكريم، فإنها تعد كنزًا عظيمًا بكل ما فى الكلمة من معنى، فكيف إذا وجدنا له ٣٠ ساعة من التسجيلات النادرة التى لم تُعرض من قبل؟!

هذا ما سنكشف تفاصيله فى السطور التالية.

الشيخ محمد رفعت هو أول من بدأ إرسال الإذاعة المصرية، حين انطلق صوته عبر الأثير مجودًا ومرتلًا لآيات الذكر الحكيم، وذلك فى شهر مايو من عام ١٩٣٤، وللمصادفة هذا هو الشهر الذى ولد ومات فيه أيضًا، فقد ولد صاحب الصوت الساحر فى ٩ مايو ١٨٨٢، وتوفى فى ٩ مايو ١٩٥٠.

من وقتها ارتبط المصريون بصوت محمد رفعت فى كل المناسبات، خاصة خلال شهر رمضان، فصوت تلاوته القرآن الكريم وأذانه الشهير أصبحا علامة إجبارية من علامات شهر رمضان المعظم، حتى إنك عندما تسمع صوته فى غير رمضان، تجد نفسك تلقائيًا تتذكر الشهر الكريم، لارتباطه الوثيق بصوت الشيخ «رفعت»، تمامًا مثل الأغانى الشهيرة المرتبطة بالشهر الكريم، ومظاهر الفرحة المختلفة مثل الفانوس والزينة.

ويرجع تميز صوت الشيخ محمد رفعت، بجانب الموهبة الربانية بالطبع، إلى حرص والده محمود رفعت، مأمور قسم الخليفة، على أن يتتلمذ ابنه على يد الشيخ الجريسى.

ومع أن الشيخ محمد رفعت لم يدرس الموسيقى أبدًا، كان صوته شجيًا وكأنه يعرف كل المقامات، لذا قال فيه الإمام الصيفى: «من أعظم الأصوات التى سمعتها فى حياتى هو الشيخ محمد رفعت. لم يكن كبقية الأصوات تجرى عليه أحكام الناس. كان هبة من السماء».

كانت الإذاعة تملك شريطين فقط للقارئ محمد رفعت عند وفاته، هما تلاوته سورتى «مريم» و«طه»، ولم تسجل للشيخ سواهما، لأنه كان يجود القرآن فى الإذاعة بشكل مباشر دون أى تسجيل، خاصة أن التسجيل كان يتم عبر جهاز «الفونوجراف» الذى يعمل بالأسطوانات، وهو ما لم يكن متوفرًا للعديد من الناس فى ذلك الوقت.

لكن كان هناك شخصان حرصا على حفظ تراث الشيخ، ولهما الفضل فى كل ما نسمعه من تلاوته اليوم، الأول هو صديقه زكريا مهران باشا، والثانى هو الحاج محمد خميس الذى كان يعمل فى التجارة.

زكريا مهران باشا هو رجل من الصعيد عشق صوت الشيخ محمد رفعت، ومن شدة حبه له اشترى جهاز «فونوجراف» ليسجل صوت الشيخ عليه، وذلك على الأسطوانات الدائرية التى كان يعمل بها هذا الجهاز قديمًا، أثناء تلاوة الشيخ فى مسجد «فاضل باشا» الموجود داخل حى «درب الجماميز» بالقاهرة.

ولم يكن الأمر سهلًا بالطبع، وكانت التسجيلات على «الفونوجراف» تكلف ثروة طائلة بمعايير ذلك الزمن، لكن «زكريا باشا» لم يبخل وسجل لوحده أكثر من ٣٠ ساعة متواصلة للشيخ محمد رفعت.

منح «زكريا باشا» للإذاعة بعض هذه التسجيلات، وكان لديه نحو ٣٠ ساعة كاملة أخرى من أجمل ما تلا الشيخ ولم تُبث أبدًا، وبعد وفاته عثرت أسرته على هذه التسجيلات ومنحتها لأسرة الشيخ محمد رفعت. 

لكن أسرة الشيخ «رفعت» واجهت أزمة كبيرة، تتمثل فى أن تفريغ الأسطوانات وتحويلها وإصلاح ما فيها من عيوب يحتاج إلى استوديو كبير مجهز، وعلى الرغم من أن الفنان محمد ثروت، وهو من عشاق صوت الشيخ، كان يملك استوديو، وعرض القيام بهذه المهمة، إلا أن الأمر كان أكبر منه بكثير.

ذلك يرجع إلى حاجة هذه الأسطوانات إلى فنيى ربط ومتخصصين، خاصة أن زكريا مهران باشا حين كان يبدل أسطوانة محل أخرى عند امتلاء الأولى، كانت كلمة أو كلمتان تضيع من التسجيل، كما احتاج الصوت نفسه إلى الكثير من الضبط عبر أجهزة حديثة وفنيين مهرة، لذا ظلت التسجيلات لدى أسرة الشيخ، ولا تعرف كيف تتصرف فيها.

انتشر أمر هذه التسجيلات وعرف به الكثيرون، لذا تقدمت دول عديدة مثل السعودية والمغرب وإيران بعروض لأسرة الشيخ «رفعت» تتضمن شراء هذه التسجيلات وضبطها وتنقيتها بأجهزة حديثة لإذاعتها من جديد، وذلك مقابل مبالغ مالية طائلة للأسرة.

لكن أسرة الشيخ رفضت بيع هذه التسجيلات بشكل قاطع، على الرغم أن ذلك كان سيعود عليها بثروة كبيرة، مؤمنين بأن صوت الشيخ «رفعت» مصرى خالص، ولا يصح أن تملك وتذيع دولة أخرى غير مصر تسجيلات نادرة بصوته.

ومن هنا، تواصلت حفيدة الشيخ محمد رفعت مناشدة العديد من الجهات بضبط هذه التسجيلات وتنقيتها وإجراء اللازم لها، فى استوديو مجهز لهذه العملية، ثم إذاعتها فى مصر.