رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أ.د. الهلالى الشربينى الهلالى يكتب: توجهات السياسة التعليمية في مصر بعد جائحة كوفيد 19 (6/ 7)

السياسة التعليمية والثقافة وبناء مجتمع المعرفة: إن الثَّقافة والإبداع يمثلان الطريق إلى التميز في كل مناحي النشاط الإنسانى؛ ومن ثم فهما يمثلان أُسسًا جوهرية وأعمدة رئيسة في أي بناء حضاري؛ وحيث إن أى ثقافة غالبًا ما لا يمكن أن تنمو وتزدهر بمعزل عن الدين؛ فقد ارتبط انتشار الثقافة العربية وسيادتها وتحولها إلى ثقافة عالمية إنسانية أفادت البشرية في زمن ازدهارها في كل مناحي الحياة من علوم ومنتجات ومبتكرات وقيم وأخلاق وفلسفة وحكمة بظهور الإسلام وانتشاره. 

والواقع أن أزمة الثَّقافة العربيَّة المعاصرة تعد جزءًا لا يتجزأ من أزمتي العملية التعليمية والتربوية، والقوميَّة العربية التى لم يتفق العرب يومًا على مفهومها وحدودها، بسبب الذاتية والقُطرية، وأحيانًا التبعية والبعد عن إعمال العقل والعلم واحتضان التفكير الخرافي، هذا بالإضافة إلى طبيعة البنية الاجتماعيَّة المتوارثة منذ مئات السنين، والتى تتسم فى بعض الأحيان بالثبات والجمود والامتثال والبعد عن حقائق العصر وتحدياته.

ومع بدء سياسة الانفتاح في مصر في منتصف سبعينيات القرن الماضي، واستيعاب إسرائيل لدروس حرب أكتوبر عام 1973، والتخطيط والتنسيق مع الغرب لنهب ثروات المنطقة وتدمير جيوشها والتحكم في مقدراتها، توقفت المجتمعات العربية تدريجيًا عن الإنتاج وتحولت إلى الاستيراد والاستهلاك بدعم من نفر غير قليل ممن تعلموا في الغرب وعادوا بعد أن انبهروا بما رأوه أو عايشوه من سلوكيات، كما ظهرت جماعات ونزعات للتعصب الطائفي والتطرف الديني وصارت للإرهاب حضانات تفرخ إرهابيين لتنفيذ تخريب وقتل وتدمير يحتمي كذبًا بالدين.

وقد نشطت تلك الجماعات لكنها حول نفسها تمحورت وبمفاهيمها المتوارثة القديمة تمسكت، وصارت مثل أولئك الذين أشار إليهم أفلاطون وفرانسيس بيكون بأنهم كمن دخلوا كهفًا وأداروا ظهورهم إلى فتحة الخروج فلم يروا إلا ظلامًا أو ظلالاً تنعكس على الجدار الداخلي من المارة بالخارج مضافًا إليه مخزون أنفسهم، ومع ذلك تخيلوا أنهم توصلوا إلى اليقين وحقائق الوجود وأسرار التقدم والتطور والسيادة وكيف يكون الخلود. 

وخشية أن تقتلع تلك الجماعات رياح التغيير القادم بقوة من الغرب مدفوعًا ومعززًا بمفاهيم ومصطلحات جديدة لم تكن مألوفة من قبل مثل العولمة والكوكبة والعالمية والكونية، وانهيار أيديولوجيات وإمبراطوريات، مثل: الشيوعية والاشتراكية والاتحاد السوفيتى، وسيطرة أخرى مثل: الرأسمالية والإمبريالية والصهيونية العالمية والولايات المتحدة الأمريكية، زاد رد فعل تلك الجماعات؛ فانتشرت على المستوى العربي والإقليمى والدولي موجات التعصب والإرهاب مدعومة من منظمات محلية وأجهزة مخابرات إقليمية ودولية.

وفى ظل هذه الأوضاع بات التحول إلى مجتمع المعرفة في كل مكونات نظامنا التعليمي والبحثي أمرًا حتميًا وضروريًا لحماية أمننا القومى سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، وكذا للحفاظ على وحدة الوطن وتماسكه وسلامة أراضيه، وهذا الأمر يتطلب بالطبع الاهتمام برأس المال المعرفي والاعتماد عليه انطلاقًا من سيادة مبدأ (المعرفة في يد الكثرة) وليس (الأموال في يد القلة)، وكذا الاعتماد عليه في إنتاج المعرفة في مؤسساتنا التعليمية ومراكزنا البحثية وتوظيفها واستثمارها كمورد اقتصادي متنامٍ لا يتوقف بالنسبة لموازنة الدولة والمؤسسات والشركات.

وقد تضمن تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر في عام (2003) رؤية استراتيجية للدخول في مجتمع المعرفة تعتمد على مجموعة من المبادئ تتضمن: إطلاق حرية الرأي والتعبير، ونشر التعليم والارتقاء بنوعيته، وتوطين العلم والتكنولوجيا، وتطوير القدرات الذاتية في التعليم والبحث العلمي، هذا بالإضافة إلى إقامة نموذج معرفي عربي منفتح على الثقافات الأخرى ومستنير يعتمد على صحيح الدين ويبتعد عن الخرافات وتوظيف الدين لتحقيق أهداف سياسية وتخريبية.

ولكن يظل السؤال الذي يطرح نفسه أيضًا هنا: وماذا فعلنا بعد عام (2003) وسقوط بغداد ومن قبلها الصومال، وتنامي دور الدول غير العربية في المنطقة بشكل غير مسبوق في كافة مناحي الحياة اعتمادا على التقدم الذي تم إحرازه في هذه الدول في مجالي التعليم والبحث العلمي؟ الحقيقة أن الدول العربية بالرغم من امتلاكها لكل مقومات نجاح مثل تلك الاستراتيجية من عقول وأرض وأسواق ورؤوس أموال لم تحقق شيئًا كبيرًا بسبب تراجع وربما تدهور نظمنا التعليمية وتشرذم سياستنا البحثية.

والحق أننا -لكي نلحق بركب الدول المتقدمة- يجب أن نعيد  النظر في مفاهيم التعليم والتربية والثقافة؛ فنحدد من أين نبدأ وأين نتقاطع وأين ننتهى، وبالطبع لن يتحقق ذلك من غير أن نحدد مواطن القصور، ونغير من رؤيتنا الثقافية والتعليمية والتربوية فنستبدل المناهج وطرائق التدريس، ونعيد الطلاب والمعلمين والأنشطة والانضباط إلى مؤسسات التعليم كى يتبدل الجهل بالعلم، والفقر بالغنى؛ والأنانية بالتعاون والتكامل والتكافل، وهنا فقط تتحول مخرجات التعليم والتربية والثقافة إلى أفعال ومنجزات وإسهامات حقيقية لديها  القدرة على التأثير في كل التيارات الفكرية العالمية والإقليمية والمحلية المرتبطة بكل مناحي الحياة .

ولكى يتحقق ذلك فإن الأمر يتطلب منا ضرورة التعامل مع السياسة التعليمية على أساس أنها عمل مؤسسي كبير وعدم اختزالها في شخص أو مجموعة محدودة من الأشخاص يحركون ويوجهون كل شيء ، ومن ثم الحرص على مشاركة الطلاب وأولياء الأمور والمعلمين وغيرهم من المتخصصين والمهتمين من الأجيال المختلفة في صنع الخطوط العريضة للسياسة التعليمية ورسم ملامح التغيير المنشود، وعدم اختزال العملية التعليمية في جانب واحد، والعمل على إعادة المعلمين والمتعلمين بعد الجائحة الحالية إلى المدارس لممارسة عملية تعليمية حقيقية، يترسخ من خلالها الدور التربوي والاجتماعي للمدرسة في حياة الطلاب؛ إذ كيف نتحدث عن تطوير العملية التعليمية وبناء مجتمع المعرفة ونحن غير قادرين على مجرد الاحتفاظ بالطلاب داخل المدارس، وإلحاق بعض من هم في سن التعليم بها.

  • أستاذ التخطيط التربوي والإدارة التعليمية ووزير التربية والتعليم والتعليم الفني السابق