رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا كيرلس .. عصر الرعاية الصالحة

عندما جاء الينا البابا كيرلس السادس – المُختار والمُعّين لنا من الرب – بدأت رعاية حقيقية بأبوة باذلة وصادقة. فعندما جاء كانت الكنيسة تغط فى نوم عميق من حيث حياة الصلاة – التى هى عماد الكنيسة، بل هى كل شئ وأساس رسالة الكنيسة. فلم تكن تُقام صلاة فى الكنيسة سوى يوم الأحد وفى بعض الأحيان حسب موافقة الكاهن تُقام صلوات فى بعض الكنائس يوم الجمعة!!، أما يوم الأربعاء فلم تكن هناك صلوات أطلاقاً فى الكنائس!!
وعندما بدأ البابا كيرلس خدمته الأمينة فى وسطنا طلب من كهنة الإسكندرية (إيبارشية البابا ومقر كرسيه الرسولى) وكهنة القاهرة أن يقيموا الصلوات فى الكنائس بأنتظام أيام الأحد والأربعاء والجمعة، ومن ثم صار قدوة طيبة لبقية أساقفة الإيبارشيات المختلفة. ولكى يضمن أنتظام الكهنة فى الصلوات كان يحرص بعد الأنتهاء من صلواته فى السابعة صباحاً بالكنيسة المرقسية الكبرى سواء بالإسكندرية أو القاهرة، يستقل سيارته البسيطة مع سائق السيارة عم عزمى ومعه تلميذه الشماس سليمان رزق (فيما بعد الراهب مينا آفا مينا عام 1964ثم الأسقف الأنبا مينا آفا مينا عام 1980) ويتجه مباشرة إلى كنيسة من الكنائس ليشاهد بعينيه مدى التزام الكهنة بالصلوات. وبعد أن يقضى فترة بالكنيسة واقفاً مستنداً على عصاه البسيطة، يخرج ويذهب إلى كنيسة ثانية وثالثة .. الخ. وفى بعض الأحيان كان يذهب إلى إحدى الكنائس فى الصباح الباكر ليرأس صلوات القداس دون سابق خبر بالزيارة. وبعد الأنتهاء من الصلوات يجلس بداخل الكنيسة ليستقبل أفراد الشعب فرداً فرداً مستمعاً لمشاكلهم مصلياً لمرضاهم. وبعد أن ينتهى من أستقبال الجميع يغادر الكنيسة عائداً إلى مقر كرسيه البسيط دون إقامة أية مأدبة للطعام، ودون إقامة الورود بالكنيسة، لأن الكنيسة متجملة بأيقونات الملائكة والشهداء والقديسين، فكيف تكون الكنيسة متجملة بأيقونات القديسين وصلواتهم ثم نضيف ورود زائفة لتجميل المكان؟ بيت الرب متجمل بالملائكة والشهداء والقديسين إن كنا نؤمن بذلك!!
البابا كيرلس فى أبوته الصادقة أهتم جداً بفقراء مصر، وعندما كان يزور المستشفى القبطى سواء بالإسكندرية أو بالقاهرة كان يبدأ بزيارة مرضى الدرجة الثالثة – الذين ليس لهم أحد يذكرهم!! كان هذا العمل الأبوى – ولو أنه بسيط – لكن كان له أبلغ الأثر فى نفوس المرضى والمحيطين بهم. كان يذهب إلى كل سرير عليه مربض ويطلب له الشفاء العاجل والصحة والعافية.
فى أبوته وتسامحه وصفحه كان يقبل الذين أساءوا إليه. فيذكر تلميذه الأب رافائيل آفا مينا (التلميذ الثانى للبابا كيرلس ) إن إحدى المجلات أعتادت أن تكتب مقالات وتوجه إهانات للبابا كيرلس مدة طويلة من الزمن!! حتى أتى يوم أغلقت فيه المجلة. فلم يكن من قداسة البابا المُحب لأولاده إلا أن توسط لعامليها جميعاً من أجل تعويضهم بوظائف فى جرائد أخرى. لم يطلب – كما يفعل البعض دون روح أبوة – بالقبض عليهم أو محاكمتهم أو تشفى فيهم!! على العكس من ذلك تماماً نجد أحد أساقفة العصر الحالى أختلف مع أحد الأشخاص، وبعد فترة قرر هذا الشخص مغادرة البلاد بمفرده إلى أن يعد بعض الأمور لأصطحاب بعد ذلك زوجته وأبنه وأبنته. فما كان من هذا الأسقف – للأسف الشديد – إلا أنه حرض الزوجة والأبن والأبن ألا يتواصلوا مع الأب بالتليفونات أو أى نوع من أنواع التواصل. ففكر هذا الشخص – لكى يطمئن على زوجته وأولاده – أن يحضر إلى مصر فى أجازة، ففوجئ أنه تم إدارج اسمه على قائمة "ترقب وصول"!! بإيعاز من هذا الأسقف!! هل هذه هى الأبوة؟ هذا الأسقف قال فى إحدى عظاته القريبة: (..أن فترة الصوم المُقدس هدفها نزع القسوة والتحجر من القلوب .. إن الناس نوعان: الأول يحمل فى قلبه حجراً، والثانى يحمل فى قلبه رحمة .. إن هدف الصوم يكمن فى أن يتحول قلب الإنسان من الجمود والقسوة وعدم الإحساس بالآخر وعدم الشعور إلى قلب ممتلئ بالرحمة). ما أروع الكلام الأجوف الخالى من الروح الحقيقية!! كيف يكتفى رجل الدين بتقديم عظات دون قدوة حقيقية فى حياته للآخرين؟     
يذكر صديق لى مقيم فى مدينة "سيدنى" بأستراليا أنه لديهم هناك فى إحدى الكنائس أب كاهن يحمل روح أبوة صادقة. حدث فى أحد الأيام أن ذهب الكاهن إلى الكنيسة مبكراً ليقيم بعض الصلوات الخاصة به منفرداً وهو بداخل هيكل الكنيسة، ولم يكن بالكنيسة أى فرد آخر. بعد فترة سمع صوت فى الكنيسة، فمن وراء ستر الهيكل نظر فوجد شخصاً يحاول فتح أحد صناديق الكنيسة ليأخذ ما بها من أموال، فتركه واستمر هو فى صلواته الخاصة. وبعد فترة قام هذا الشخص بوضع الأموال التى أختلسها وغادر الكنيسة. بعد عدة أيام عرف بعض الناس بما حدث. فتوجهوا إلى الكاهن وقالوا له: (كيف تركت هذا الشخص يفعل هذا؟)، فقال لهم – لأنه أب حقيقى – (هل كنتم تريدون أن أقوم بتسليم أبنى للبوليس؟ هو فى النهاية أبنى وربما كان فى أشد الإحتياج لهذا المال).
إننا نستطيع أن نقول بحق أن عصر البابا كيرلس السادس هو عصر الرعاية الصالحة، عصر الرسامات المستنيرة المتدينة تديناً حقيقياً. ذلك تأيد بالأعمال على مدى 12 سنة (1959 – 1971). فمنذ أن جلس – بإختيار إلهى واضح جداً بدون أية تدخلات خارجية – على كرسى القديس مرقس كاروز ديارنا المصرية ولا يشغله شاغل عن توفير الرعاة الصالحين والأتقياء فى شتى أنحاء الكرازة المرقسية ليعملوا جاهدين على غرس التعاليم المقدسة والفضائل المسيحية فى النفوس. بدأ البابا كيرلس خدمته برسامة الراهب التقى كيرلس الأنطونى مطراناً للقدس فى عام 1959، ثم توالت بعد ذلك الأختيارات المُلهمة من الرب فأقام د. أديب عبد الله (أستاذ الرياضيات بعلوم القاهرة) كاهناً على كنيسة الملاك بمنطقة طوسون – شبرا، فكان خادماً أميناً. ففى عهد البابا كيرلس رأى الشعب ما وصلت إليه الكنيسة من مجد وعظمة وروحانية حقيقية وصادقة والتصاق كامل بالرب. ما أعظم مسئولية الكاهن الأب والأسقف الأب نحو رعايته المؤتمن على رعيته بالأبوة الصادقة، فيبذل نفسه ويضحى ويُغار عليها غيرة صادقة ويريد أن يطمئن على كل فرد فيها لكى يرى الجميع يعيشون فى مخافة الرب، فالراعى الساهر الأمين يشفق على شعبه بالقدوة الطيبة وليس بالكلام الأجوف.
أذكر أننى فى شهر يونيو 1970 – قبل أنتقال البابا كيرلس السادس بتسعة أشهر – كنت أصلى معه بدير مارمينا بمريوط منفردين وحدنا دون وجود أى شخص آخر. ومن بين الصلوات صلاة خاصة بالآب البطريرك. فتملكتنى حُب المعرفة أن أعرف ماذا سيقول البابا كيرلس فى الصلاة الخاصة بالبطريرك؟ ربما أدرك البابا كيرلس ما يدور فى فكرى، فحاول أن يمنعنى أن اسمع ما يقوله، لكنى نجحت فى سماع ما قاله، فسمعته يقول بتواضع شديد جداً: (أذكر يارب عبدك كيرلس). يالروعة هذا الأب المتضع بالحقيقة. الآن لا يوجد أى أسقف يصلى منفرداً، إذ لابد أن يكون معه مجموعة من الكهنة أو الرهبان أو الأساقفة الآخرين، والكنيسة تكون مُزينة بالورود!! فى أختفاء الأبوة ضل الشعب!!