رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«طل القمر».. كيف هزمت شريهان الموت مرتين؟

شريهان
شريهان

تدريجيًا، تحول اسم شريهان إلى عناوين لأخبار مثيرة، انتقل من صفحة الفن إلى صفحات الحوادث والوفيات، والصفحات الأولى للجرائد، ليصبح جزءًا من مانشيت حزين.. حادث مأساوى.. شائعة غير عادية.. مرض.. جراحة.. أصبحت أشياء عادية فى حياتها اليومية، تدارى «الطموح والجنون والدلع والخفة والجمال» المرتبطة باسمها منذ أنهت دراستها الرقص فى باريس، وعودتها إلى القاهرة لتبدأ مشوارها الفنى. 

لن يفهم الجيل، الذى يعيش على مواقع التواصل الاجتماعى، قيمة شريهان، وتأثير حضورها، سيتجه إلى التحليل الاستراتيجى للإعلان، الذى استغرق ٤ دقائق، والحديث عن ملله والرسائل من ورائه، بينما الرسالة الوحيدة التى تريد أن توصلها شريهان، أنها عانت وكانت قوية وخرجت من التجربة واقفة على رجليها، رغم ما مرت به، والرسالة التى تريدها شركة الاتصالات «المعلن» هى: «قوتنا إن مفيش حاجة تقدر توقفنا». 

النجمة التى هدأ نورها، تبعث بـ«رسائل الأمل» مرة أخرى.

 

 

 

رسائل العودة.. ما وراء «الطلة الأخيرة»

بالنسبة إلى أبناء الجيل الذين حضروا مجد شريهان، وكانوا «فانز» لا يفوِّتون لها فيلمًا أو مسلسلًا أو مسرحية أو حلقة من الفوازير، بدا الظهور مختلفًا، ليست «نوستالجيا» كما يحلو للجيل الجديد أن يصنّف كل شىء قديم يعود فى الحاضر، إنما سعادة برؤية نجمته التى اختفت، وغابت طويلًا بعد حادث غامض. 

كان يشاهد رقصاتها فى فوازير «حول العالم» و«حاجات ومحتاجات»، و«ألف ليلة وليلة»، و«سك على بناتك» و«شارع محمد على»، و«خلى بالك من عقلك»، فتحولت إلى فتاة أحلام لجيل كامل من الشباب، ونموذج تتشبه به بنات الجيل.

تُفاجئ شريهان الجمهور بالعودة إلى الساحة لتروى ما جرى.

لا تحكى بالطريقة المعتادة فى لقاء تليفزيونى أو حوار صحفى، إنما بالطريقة التى أحبّوها بها، الرقص الاستعراضى والغناء.

تبدأ بـ«ياما الدنيا كسرتنا» بينما تطاردها الأشباح وتتحلق حولها وتحاول اصطيادها، فالهموم والصعوبات كانت، طوال حياة شريهان، أكبر مما يتحمل أو يستوعب أحد: فقدت شقيقها، تعرضت لحادث، طاردتها شائعات مدمّرة، أصيبت بسرطان نادر يصيب واحدًا من كل ١٠ ملايين شخص، أجرت جراحة صعبة، وانتظرت «المعجزة الإلهية» أكثر من مرة، فلم يرد الله دعاءها، ولم يخب ظنها به، وأحبّها، فكانت دلائل محبته طاغية على حياتها طوال الوقت، أنقذها من الموت، وحبب فيها خلقه منذ ظهورها الأول حتى ظهورها الأخير، فلم ينسوها مهما غابت، وأصبحت «طلتها» تشع بهجة مهما مرّت الأيام. 

تترجم شريهان فى الإعلان خطواتها، وإصرارها: «ولما اتقرصنا.. نشفنا راسنا.. دى قصة حياتنا.. عدينا حفرة.. فا لقينا نقرة.. وفلتنا أهو»، لتصل إلى النهاية: «ده إحنا القلب اللى طاير.. متشعبط فى الحياة.. مهما نلف ف دواير.. زى الريشة فى هوا.. راجعين أقوى وطايرين».

رسالة شريهان التى لا تتوقف عن توجيهها مهما مر الزمن، وفات العمر.. وهى أن «مفيش حاجة تقدر توقفنا»، ويمكن أن يجد كل مصرى نفسه فى الرسالة، فهى الدافع الأكبر للبقاء بالنسبة لأى مصرى، ورسالة وجود بالنسبة لمصر، ورسالة لكل الموجوعين والمطحونين والمكسورة قلوبهم وأنصاف الموتى، والذين يشعرون بأنهم حطب يحترق لتستمر الحياة، بأن العمر لا يزال أمامهم، والحياة تستحق التحدى، لتتحول رقصة شريهان من مجرد استعراض إلى دليل عملى على أن الحياة رهينة أصابع من قبلوا التحدى، وواجهوا، وأصروا على البقاء.

 

سر «المعجزة الإلهية»: «الأمل فى الشفاء كان 1%»

هل كانت «نصف ميتة»؟

لنعد إلى سيرة شريهان قليلًا.

نحن الآن فى ٢٤ مايو ١٩٨٩.

كانت عائدة بسيارتها من الإسكندرية، تعرضت لحادث قاتل، نجت منه وبقيت آثاره على جسدها الضعيف.. كسور مضاعفة فى الحوض، والعمود الفقرى، شلل محتمل، وجلسات علاج طبيعى مكثفة، واحتفظ الحزن بموقعه الدائم وراء ابتسامتها الفاترة، وهى توقع إقرارًا للطبيب الفرنسى بأنها ربما لا تقف على قدميها مرة أخرى، كان الأمل محدودًا، والمكالمات التى تطمئن على حياتها وصحتها بالآلاف.

تحكى شريهان ما جرى فى حديث لمجلة «الموعد»: «الأمل كان ١٪، ولكن إيمانى العميق بالله جعلنى أقدم على المحاولة، وزاد من هذا الإيمان وقوف الناس إلى جانبى ودعواتهم ومكالماتهم».

وكيف كان العلاج؟

لا تنسى شريهان هذا التاريخ أبدًا.. ٩ أكتوبر ١٩٩٠.

«فككت (قميص الجبس)، وبعد الأشعة قال لى الطبيب إن عمودى الفقرى عاد كما كان، وعدت من باريس (مكان المستشفى)، وكان كل ما أقوم به هو العلاج الطبيعى إلى جانب السباحة، هذا هو كل علاجى، فلا أدوية ولا أى شىء آخر، والعلاج الطبيعى يعيد لى ليونة جسمى».

فى ذلك الوقت، كان عمر الفراشة الجميلة ٢٦ عامًا، بينما تلاحقها الكاميرات على أمل أن تلتقط صورة، والصحفيون لإجراء حوار واحد، يروى عطش المشتاقين إلى خبر واحد عن شريهان.. وكانت هى تخطط لنقلة جديدة فى حياتها: «أعد الآن مسرحية جديدة، وهى عمل فنى ليس سهلًا، وليست كوميدية أو استعراضية، بل درامية، وستجعل منى شخصية فنية أقوى، وستكون لى عودة إلى شاشة السينما فى فيلم استعراضى ضخم من إنتاجى». 

وتساءل محرر «الموعد» عن سر الحزن المدفون فى عينيها، فأعلنت غضبها من ارتباط اسمها بالأحزان والشائعات والمآسى، واعترفت بسيرة الحزن الممتدة بطول عمرها القصير: «أنا أحب المرح والضحك لكن ظروفى الإنسانية كانت قاسية، توفى والدى وأنا فى التاسعة، ثم دخلت المحاكم فى قضية إثبات نسب منذ هذا الوقت، حتى الآن، وقد حكم القضاء لى، وكل ذلك كان لأسباب مادية، لقد أرادوا إلغاء نسبى من أجل المادة، وكان هذا هو السبب الرئيسى الذى جعلنى أدخل كلية الحقوق، لأننى أريد أن أفهم القوانين، وأخى عمر خورشيد أعطانى اسمه مرة، ومرة حذفوا عنى اسم أبى، وكان موضوعًا شائكًا وصعبًا على طفلة فى المدرسة».

فقدت أمها وشقيقها فجأة.. وتوقعت وفاتها قبل دخول العمليات

كان النجاح والاستمرار، بالنسبة إلى شريهان، مسألة حياة أو موت.

بدأت الحوادث تعصف بأسرتها: «لازمنى الحزن لوفاة أخى الوحيد عمر، فهو كان وحيدًا ونحن ثلاث بنات، ورأيت حزن أمى وعايشته وحياتى كلها كانت معها، وكانت سندى وظهرى، وحياتى وملاذى وتوفيت هى أيضًا، وعشت وحدى فى بيتى وأنا فى التاسعة عشرة من عمرى بعد وفاة أمى». 

وانفتحت عينا شريهان على البحث عن «معنى كبير لحياتى فلا أجده».

عاشت وحيدة: «ينصرف الخدم فأبقى لوحدى، لا أحد يدلنى، أو يتولى شئونى وأنا عاجزة، مشلولة، ووجدت السكاكين تقطع فى جسدى، وقاومت، وكتمت آلامى، ولم يقف أحد إلى جانبى، لا عائلة تسندنى، نصيبى أن أصاب بحادثة هددتنى بالشلل، ولكن من يسأل عنى؟ لا أحد».

وتحكى أنّه «بعد سنة ونصف فى الفراش خرجت مع أصحابى لسهرة، وقالوا: شريهان أول ما خرجت، وبدلًا من أن يقولوا (الحمدلله)، قالوا: رقصت.. وأنا لم أرقصْ، كنت فقط أصفق».

لم تغادرْ الأحزان شريهان، عاجلتها كلما خرجت من أزمة لتلقى بها فى مأساة، فمن حادث كارثى إلى سرطان نادر انقضّ على جسدها «٢٠٠٢»، ولولا «المعجزة الإلهية» لفشل فريق الجراحين العالمى فى استئصال الورم، وزراعة أنسجة وعضلات وقناة لعابية بديلة، ولم تستجب لعملية الزراعة. 

كانت تعرف ما ينتظرها، وقالت لرئيس فريق الجراحين قبل دخولها غرفة العمليات لـ١٧ ساعة: «سأخرج من هنا لألقى وجه ربى أو وجه ابنتى وفى الحالتين أنا راضية وسعيدة». 

عاشت أيامًا حرجة، وبقيت زياراتها المتكررة لباريس بين «ألمين»، ألم العمود الفقرى وألم السرطان، لكن يد الله كانت تأخذ بيدها لتنجو وتبقى بيننا، حتى الآن، لتطل مرة أخرى وتقدم سيرة وجع بعد حوادثها بـسنوات طويلة، وتنفخ من روحها فى ملايين اليائسين والمتعبين، لتمنحهم طلتها البهيّة، أملًا فى النجاة والعمر السعيد والمحبة الباقية فى قلوب الناس، ورسالتها الأخيرة: «ع الصعب فى حياتنا متعودين.. الدنيا بقت لعبتنا ومكملين».