رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الفقيه المجدد».. سعدالدين الهلالى: الدستور والقانون هما الشريعة.. ومسئولية رجال الدين الإبلاغ لا الإلزام

الدكتور سعدالدين
الدكتور سعدالدين الهلالى

حذر الدكتور سعدالدين الهلالى، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، من وضع بعض الجماعات والتنظيمات الدينية منظومة مكونة من تفسيرات وإضافات وتعليقات وتقديمات واستبعاد نصوص بعينها وتقديم أخرى، باعتبارها هى «الشريعة»، ثم استخدامها والاحتماء وراءها من أجل الحصول على سلطة وحكم الشعب والسيادة عليه.

 

 ورأى «الهلالى»، فى حواره مع «الدستور»، أن الحل لمواجهة هذا يتمثل فى اعتبار كل إنسان «سيّدًا»، وأن اتفاق البشر فى الدستور والقانون هو «شريعة المجتمع»، لأن اتفاق المجتمع على القانون والدستور يعنى اتفاقه على المرجع الذى يرجع إليه ويكون ذلك هو شريعته. وتحدث أستاذ الفقه المقارن والمفكر الإسلامى عن مفهومه لمصطلح «تجديد الخطاب الدينى»، إلى جانب الجهود التى تجرى لتنظيم الفتوى، وهل نحن فى حاجة إلى تصحيح فهمنا لفكرة الإفتاء ذاتها من عدمه، وغيرها من الأفكار والقضايا فى الحوار التالى. 

 

 

 

 

■ بداية.. كيف يرى د. سعدالدين الهلالى فكرة «تجديد الخطاب الدينى»؟

- هذه الفكرة بكل تفاصيلها ترجع إلى الإرادة السياسية، المتمثلة فى فخامة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى اتضح أنه ومن معه- ممن يغارون على وطنهم ودينهم وتاريخهم- يدركون جيدًا المسارات الصحيحة للخطاب الدينى، وأن النص القرآنى نص هدى وليس نص دستور أو قانون، بعد سنوات من ترديد شعارات رنانة مثل: «القرآن الكريم دستورنا»، و«إذا ورد الحديث فعليك بالسمع والطاعة».

فالنص القرآنى والنص النبوى هما نصا هُدى مُعجز، وصفه الله بأنه «هُدَى»، وسيدنا النبى محمد قال: «أوتيت جوامع الكلم» و«إنى أوتيت القرآن ومثله معه»، والكلمة أو الجملة الواحدة فى النص القرآنى أو النبوى تجمع معانى متعددة، وليست دلالاتها أحادية، بخلاف القانون والدستور اللذين يجب أن تكون صياغتهما أحادية الدلالة، لأنه لو تمت صياغة القانون أو الدستور صياغة ثنائية أو ثلاثية الدلالة، فإنه يكون هناك عيب فى الصياغة يجعل القاضى يحكم فى أمرين متفاوتين ولا يقيم العدل بالكامل.

أما النص القرآنى والنص النبوى لو وصفت أحدهما بأنه أحادى الدلالة فقد أسأت إليه، لأن ذلك يعنى أن خطاب الله مثل خطابنا، لكن من إعجاز القرآن والنص النبوى أنه «حمال أوجه»، كما قال الإمام على بن أبى طالب، أى أن دلالاته متعددة، وهذه الدلالات المتعددة أثبتها التاريخ.

وأنا لم أقدم جديدًا فى ذلك، فمن أين أتى أبوحنيفة بآرائه المختلفة عن آراء المذهب المالكى والحنبلى والظاهرى، وكلها دلالات متعددة جاءت من النص الواحد؟ لذا سنظل نعيش مع هذه الاحتمالات، وإذا تمسكت برأى فإن غيرك من حقه أن يتمسك بالرأى الآخر ويعذر بعضنا بعضًا، فلمّا يعذر بعضنا بعضًا نجلس جميعًا على مائدة البشرية وليس على مائدة «الكهنوتية» ونتفق ماذا نصنع، وإذا اتفقنا ماذا نصنع صار اتفاقنا مُلزمًا، وإذا لم نتفق فأنت لك رأيك وأنا لى رأيى ونتعايش على «ازدواجية الآراء».

■ هل هذا يعنى أن لدينا إشكالية فى مفهوم «الخطاب الدينى»؟

- بالتأكيد. والرئيس السيسى تحدث عن هذه الإشكالية، وأقنع الشعب بل كل العالم بأن الخطاب الدينى فى مصر والوطن العربى يعانى تلك الإشكالية، بسبب مجموعة من المظاهر، منها العنف باسم الإسلام على مستوى العالم، والقتل تحت اسم «الاستشهاد» عبر قتل نفسه وغيره لكى يدخل الجنة، والحقيقة لا أعلم أى خطاب غسل مخ الشباب بهذه الطريقة، فهل يصح بعد ذلك أن نقول إنه لا توجد إشكالية فى الخطاب الدينى؟

صحيح أن هناك تطرفًا مسيحيًا ويهوديًا، ومن أديان أخرى، لكن الأرقام تشير إلى أن النسبة الأعلى فى العنف ممن يزعمون أنهم «مسلمون»، فلو قلنا إن هناك ١٠ حالات فى الدين المسيحى ومثلها فى اليهودية، سنجد أن هناك ٨٠ حالة عنف من المسلمين. من يستطيع أن يُكذب ذلك والواقع يقول هذا؟

■ من المسئول عن هذا الخطاب الدينى الذى أدى إلى هذه الإشكالية؟

- وجود تنظيمات وتيارات دينية وراء هذه الأزمة، فلا يصح تمكين تنظيم أو تيار دينى من أن يسود فى المجتمع، بل يجب أن يتحول كل من عنده عِلم إلى أن يخدم الشعب بمعلوماته التى يجب أن ينسبها لنفسه لا إلى الشرع أو الدين، لذلك أتمنى صدور قانون لتجريم إصدار الفتوى بخلاف ما اتفق عليه الشعب فى الدستور والقانون.

مثلًا نص الدستور على أن «العقيدة مُطلقة»، فلو خرج شخص وقال: «العقيدة واحدة»، يكون رأيه هذا مخالفًا للدستور، وهنا يجب تجريم ومعاقبة صاحبه.

وكذلك نص قانون الوصاية رقم ٧١ لسنة ١٩٤٦ على أن «الوصية تصح للوارث وغيره، وتصح فى ما زاد على الثلث إذا ما أجازها الورثة الشرعيون»، أى أن «الوصية للوارث جائزة»، لكنّ أوصياء الفتوى ومتصدرى مشهد تجديد الخطاب خرجوا ليقولوا: «لا وصية لوارث»، مستندين إلى الحديث النبوى: «إن الله أعطى كل ذى حق حقه، ولا وصية لوارث»، على الرغم من أن القانون مأخوذ أصلًا من آية قرآنية أعطت الحق للأقربين دون إشارة إلى أن يكون وارثًا أو غير وارث، وبالتالى أصبحنا أمام أمرين: إذا أخذنا بالحديث سنترك الآية، وإذا أخذنا بالآية سنترك الحديث، فجاء القانون وأخذ برأى معتبر منهما، فهل يصح الإفتاء بغيره؟!

ومن يفتى بغير هذا الرأى يُشكك الناس فى القانون، على الرغم من أنه دارس للفقه ويعرف أن هناك قاعدة فقهية تقول: «حكم الحاكم يقطع الخلاف»، والحاكم هنا هو القانون، الذى يجب ألا يتم الإفتاء بغيره. من الممكن إبداء رأى غيره كنوع من الاقتراحات وحق التعبير، لكن الإفتاء وتوجيه الناس إلى رأى يخالف القانون هو هدم لثوابت الدولة والقانون.

كذلك أتمنى إصدار قانون ثانٍ يُجرم من ينسب فتواه للدين، فالأصح أن ينسب الشخص فتواه إلى نفسه، لأنه لن يكون أفقه من أبى حنيفة الذى قال: «ما قدمناه رأى»، ولا من الشافعى الذى قال: «ما قدمناه رأى خطأ يحتمل الصواب وصواب يحتمل الخطأ»، لذا أرى أن من يقدم فتوى وينسبها للدين والشرع فقد أخذ الدين والشرع لنفسه دون غيره، وأنه لا يجوز إلزام الناس بفتوى.

■ كيف ترى المطالبات بـ«توحيد الفتوى» إذن؟

- «توحيد الفتوى» يعنى توحيد الفهوم والآراء والاستيعاب، فهل الابن يستوعب ما يستوعبه أبوه؟ وهل الزميل يستوعب مثلما يستوعب زميله؟!.. كل إنسان بفهمه وقناعته، لذا فإن «توحيد الفتوى» يعنى «إلغاء الفهوم والعقول»، لأن الفتوى رأى.

الغريب أن هذا من مظاهر «تجديد الخطاب الدينى»، والبعض تجاسر وتقدم به فى قانون يُناقش داخل مجلس النواب السابق، تحت اسم «قانون الفتوى»، وأرجو ألا يُعرض فى المجلس الحالى، فمن الغريب تحديد مَن له حق الفتوى، لأنها كما قلت «رأى صواب يحتمل الخطأ وخطأ يحتمل الصواب»، فكيف نمنح حق إبداء الرأى لناس عن غيرهم؟

■ وكيف يحاول البعض أن يضع لها قانونًا للاستقواء به، رغم مخالفته الدستور الذى يتيح حرية التعبير؟

- أرى أن ذلك من باب «تلجيم» المسلمين وحثهم على عدم الحديث إلا بما يقتنع أو يتكلم به أوصياء الفتوى، رغم أن الفتوى متجددة ومتغيرة، فمثلًا شيخ الأزهر جاد الحق على جاد الحق أجاز «ختان الإناث»، وشيخ الأزهر سيد طنطاوى حرمه، وكذلك الأمر فى قضية فوائد البنوك.

كما أن دساتير العالم، ومن بينها الدستور المصرى، تمنح حرية التعبير لكل مواطن، بل وتتيح حرية العقيدة كذلك، وأى إنسان اختار عقيدته من أجل إرضاء الله يجب أن يُترك، وفقًا لقول الله تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ * فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، و«فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ».

■ هل نحن بحاجة إلى فهم حقيقى لمعنى الفتوى؟

- الفتوى ليست مصنعًا يحتاج إلى تجديد، نحن بحاجة فقط إلى إلغاء «الكهنوتية الإفتائية»، فالفتوى- كما بينت سابقًا- رأى يعبر عن ثقافة وعلم صاحبها، وحق الرأى مكفول للكل، لذا يجب أن يعرف الشعب أنه لا يوجد مُفتٍ أو شيخ أزهر أو شخص مهما بلغت درجة علمه سيشفع للكل أو سيحميك بفتواه التى أعطاها لك يوم القيامة، لأن جميع الفتاوى التى نسمعها ليست مضمونة فى الآخرة.

والضمان الوحيد للفتوى هو القلب السليم الذى تلقى الله به عند الحساب، كما قال تعالى: «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم»، وهنا لم يقل تعالى بـ«فتوى سليمة»، لذا الفتوى السليمة من وجهة نظرى هى التى يقتنع بها الإنسان ويشرف أن يلقى الله بها.

لذلك نحن جميعًا مسئولون عن تجديد الفتوى، عملًا بقوله تعالى: «كل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه»، ففتوى المفتى لن تغنى عن لقاء الله، وإنما فتوى الإنسان فى نفسه وبضميره، بخلاف ما يمارسه البعض من ترهيب للناس واستنكار لحديثهم عن الله، بحجة عدم دراستهم القرآن والأحاديث، وهذا هو الكلام الذى يذبحون به عقول الشباب، ويجعلون الناس لا تتحمل المسئولية، رغم أن الله قال: «بل الإنسان على نفسه بصيرة»»، وعندما قال تعالى ذلك، كان يعلم أن كل بشر متفاوت مع أخيه الإنسان فى عقله وعلمه وتخصصه.

أيضًا هذا المعنى ذاته موجود فى حديث النبى، صلى الله عليه وسلم، عندما جاءه وابصة بن معبد يسأله عن البر والإثم، فقال له الرسول الكريم: «البر ما اطمأنت إليه النفس واستراح إليه القلب، والإثم ما حاك فى النفس وتردد فى الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس.. يا وابصة استفت نفسك استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك».

إذن النبى حمّل «وابصة» مسئولية نفسه وضميره، رغم أنه أسلم سنة ٩ هجرية، قبل وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، بعام واحد، ولم يلتقه إلا هذه المرة، ولا يمتلك من العلم ما يمتلكه عمر والصديق أبوبكر، وللأسف البعض أنكر هذا الحديث والآخر ضعفه، رغم أن كل المحدثين يقولون إن «إسناده حسن».

وأوصياء الفتوى الذين يريدون احتكارها يضحكون عليها بأننا «سنحتكم للهوى»، لو فعلنا ذلك، وهذا أيضًا من إشكاليات الخطاب الدينى، لأنهم بذلك يهدمون ما بيننا والله، ويجعلون الناس يقولون عن الواحد منهم: «هو أنا هكون زى فلان اللى مع الله؟!».

ومسئولية علماء الدين هى تعليم البشر ما يعلمون فقط، ثم يرفعون أيديهم دون إلزام أحد، والنبى، صلى الله عليه وسلم، لم يلزم أحدًا بشىء، بل بلغ الناس ورفع يده، مصداقًا لقوله تعالى: «ما على الرسول إلا البلاغ»، فإذا كان «ما على الرسول إلا البلاغ»، فلماذا نجعل خطابنا الدينى قائمًا على إلزام المجتمع بشىء.

■ ما الذى أوصلنا إلى كل هذه الأفكار الخاطئة عن الفتوى؟

- السبب فيما وصلنا إليه أنهم قدموا لنا الدين على أنه منظومة يجب العمل والتعايش عليها، فدائمًا ما يضحكون علينا ويقولون لنا إن الدين منظومة: «حد ينكر الصلاة؟» و«حد ينكر الحج؟»، وهذا حق يراد به باطل، لأنهم سرقوا الواقع ونسبوه لأنفسهم، فكل هذه الأشياء جاءت عن طريق توافق وليس اتفاقًا.

وهنا أريد أن أسأل سؤالًا: هل المنظومة التى قدموها لنا موجودة فى القرآن؟

بالتأكيد لا.. هم أخذوا «نصًا قرآنيًا» من هنا وتفسيرًا معينًا من هناك، ثم «شبكوهم مع بعض» وقدموه للناس، وربنا قال لنا عن هذه الحالة: «فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا فويل لهم مما كسبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون».

كذلك قالوا: «ده اقتصاد إسلامى» و«دى شريعة إسلامية»، وأنا فى الحقيقة أريد أن أعرف ما هى الشريعة الإسلامية؟ وما هو الطب الإسلامى؟ وغير ذلك مما وصفوه بأنه «إسلامى»، هل كتبه الله فى كتاب؟ ولّا تم جمع تفسيرات وإضافات وتعليقات وتقديمات واستبعاد نصوص بعينها وتقديم أخرى، ثم عرض هذا كله على أنها «شريعة إسلامية»؟

إذن ما فعلوه هو عمل بشرى يسرى عليه «خطأ يحتمل الصواب والعكس»، ويسرى عليه قول الله عز وجل: «فويل للذين يكتبون الكتاب...»، وفى الحقيقة هم يريدون تقديم «منظومة لحكم الشعب»، يريدون سلطة وأن يسودوا هذا الشعب، ويحتموا وراء هذه «الشريعة».

■ كيف يمكن مواجهة ذلك؟

- هنا يجب أن نسيد هذا الشعب، عن طريق اعتبار أن كل إنسان هو سيد، وليس أمامنا إلا أن نعتبر أن اتفاق البشر فى الدستور والقانون هو شريعة هذا المجتمع، لأن اتفاق المجتمع على القانون والدستور يعنى اتفاقه على المرجع الذى يرجع إليه ويكون ذلك هو شريعته.

وأيضًا كذبوا علينا، وقالوا إن «الشريعة» هى ما نزلت من السماء، والحقيقة أن ما نزل من السماء هو توراة وإنجيل وقرآن وزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى، فلم ينزل شىء واحد، لكن أشياء كثيرة، ونحن مؤمنون بكل ما نزل من السماء.