رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من وحى موكب الحضارة


لعل من تبعات مشهد مسيرة مومياوات ملكات وملوك أزمنة الإبداع الحضارى، ثم النظرة إلى عالم اليوم فى زمن الجائحات بكل أشكالها وتجلياتها والتبعات الاقتصادية المؤلمة لمجرد عبورها فى شوارعنا وحاراتنا، أنه يمكن الخروج بما يشير إلى أننا فى زمن صار فيه الإنسان غير مؤمن ولا يبالى بما يفعله التاريخ بالشعوب.. ففى أرشيف وأوراق التاريخ ما يشير إلى حالات الغدر التاريخى الذى يمكن أن يشيد حضارة، أو يبيد حضارة، والعودة إلى نقاط البدايات والوقوف عراة فى صحراوات الدنيا المحبطة المتوهة للباحثين عن الأمان والسلام.
وعليه، لقد جاء الموكب الحضارى المصرى العظيم المنطلق من ميدان التحرير، مؤكدًا على أن الحضارة التى تؤمن بدور العلم فى إيجاد الحلول والانطلاق فى دنيا الإبداع والعمل الجاد والإيمان بقدرات الإنسان- هى فى النهاية الحضارة التى يمكنها أن تعود بشعبها لأزمنة الازدهار، حتى فى أزمنة الجائحات الإنسانية والاقتصادية المؤلمة، أما الشعوب التى لا تؤمن بتلك الأدوار وتعتبرها ترهات عبثية، هى من تعيش فى النهاية أزمنة الركود والموات والاضمحلال على المدى البعيد.
إن الشعوب التى تعيش مشكلة التأخر التاريخى الذى يتخبط فيه العقل لتفهم معنى التاريخ ذاته تتراجع أحوالها، فمن يرون أن التاريخ مجموعة من الحكاوى والسرد والخرافة والأمور الغيبية غير القابلة للتعامل الإنسانى المنطقى، ولا يفهمون التاريخ كمجموعة من المحددات القانونية المنظمة لحركة سير الأحداث الاجتماعية والاقتصادية، ولا يدركون أن التاريخ يصنعه الأقوياء، لأن القوى هو الذى يعى بأن للتاريخ صُناعًا لديهم عقل جمعى قادرين على تحريك الأحداث ببوصلة تضبط الاتجاهات وتشير إلى الحلول- لديهم مشكلة حقيقية.
إن المتابع لانطلاق الموكب الحضارى من شرفات العصر فى ميدان التحرير، لا بد قد علم أن صناعة الأبطال والأقوياء لها متطلبات ترتكز على الوعى بأهمية التقدم، وإدراك واحترام قيمته على المستويين الإنسانى والاجتماعى، والإيمان بدور العلم ومخرجاته فى بناء الإنسان وصناعة التاريخ، أما من ينكرون علم وحضارة مجتمعات التقدم الحضارى أيًا كان موقعها، فهم بشر خارج حدود التاريخ البشرى، لتمسكهم بالخرافة والتمترس فى مواقع الإيمان بوهم الريادة والقيادة رغم تجاوز تجليات زمانها «زمن الاكتفاء برفع الشعارات».. لقد عشنا أزمانًا من تاريخنا الحديث للأسف ونحن نتحرك بخصوصية قاتلة حالت دون أن نتبنى فكرًا تاريخيًا يساعدنا على فهم تاريخنا وثقافتنا من خلال فهم واعٍ ومنطقى وواقعى لتاريخ وثقافة الأمم الأخرى، ولذلك وجب علينا تحية من قاموا فى الفترة الأخيرة فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى بإعادة توجيه البوصلة وتغيير كل تلك المفاهيم بتوجيهاته التنويرية، والتى جسدتها وقفته الشامخة فى استقبال ذلك الموكب الحضارى.
ولا ريب أن هؤلاء الذين يعيشون خارج حدود التاريخ البشرى يشكلون الجائحة الأبقى، والتى تتوالى وتتوالد تبعاتها ومخاطرها بقدر ما سبق، وتجذرت فى عقول ووجدان البسطاء منا عبر أزمنة شرعنت وجودهم، وتم فيها الاستسلام والاستجابة لرسائلهم مقابل درء مخاطر الصراعات بغطاء سياسى مفاده أن التماهى مع دعواتهم يساوى ضمان العيش فى حالة استقرار!!
وبات هؤلاء يسعون دومًا إلى ربط المجتمع بالخرافة وتفسير كل ما هو اجتماعى بما هو غيبى وخارج الوجود، كما أنهم يجعلون التفكير منفصلًا عن المحددات الواقعية، الاقتصادية منها والسياسية والثقافية، وصولًا إلى تحقيق مرادهم فى تقاسم خيرات الدنيا وغنائمها فيما بينهم بعد الانتصار النسبى على أهل الفكر وأصحاب مشاعل التنوير، فالمهزومون هنا ليسوا أهل تدين وتعبد من وجهة نظرهم، وعليهم الاقتراب من الله لكى يصلوا إلى مكانتهم فى التدين والتعبد حتى يرضى الله عنهم.
وعلى من لم يرض عنهم الله إذا أرادوا التعايش مع أهل التراجع الفكرى أن يلتزموا بضرورة التماهى مع أفكارهم المنفصلة عن الواقع وسماته المتطورة.
لقد بدت كتائبهم الإلكترونية المتخلفة تتميز عناصرها غيظًا وقلقًا، وهم يتابعون فعاليات مسيرة موكب المومياوات الملكية عبر قراءات خاطئة مضللة حول تفاصيل المشهد، يكيلون الاتهامات الساذجة لمن لا يتبعهم بعدم الالتزام بفكرهم الخرافى، وهذا ما يجعلهم كارهين كل خطاب حداثى، لأنه خطاب إعمال العقل المرتبط بواقع بنية المجتمع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، ففكرهم المعتمد على مظاهر التدين الشكلى يرى فى التشرف بالانتساب لحضارة أجدادنا المصريين توجهًا مخيفًا وخروجًا عن الانتماء لفكرهم، والبعد عن قواعد مجتمعاتهم المدمرة لأحلام الناس فى أن يعيشوا فى دولة يعمل مواطنوها عقولهم ويُعتمد فيها كل آليات التفكير والنقد والحوار الإنسانى، والتواصل مع حضارة الأجداد والتعهد بالاستفادة من ثمارها والبناء عليها، والتفاعل الإيجابى مع حضارات العالم المتقدم.
لقد أغضبهم مشهد شبابنا وفتياتنا وهم يحملون الأطباق البلورية المضيئة التى ترمز لقرص الشمس «رع»، الذى يشع نوره باختراق مساحات الظلام!
لقد كان القدماء يستخدمون تلك الأطباق النورانية اعتقادًا منهم أنه ينير الطريق أمام موكب الملوك كرمز لنور الشمس التى تشرق على مصر، فهى رمزية تدل على أن الحضارة المصرية تنير العالم بعبقرية حضارية مصرية.. فشروق الشمس يعنى ميلادًا جديدًا وغروب الشمس يعنى الموت، ومن هنا كانت مدينة الأموات فى البر الغربى، حيث تختفى الشمس وتموت ثم تبعث من جديد فى يوم جديد لتعلن حياة جديدة.
الشكر والامتنان والتحية لكل من ساهم بأى دور فى التخطيط أو التصميم أو الإدارة أو التنفيذ لبرامج وفعاليات احتفالية مسيرة موكب المومياوات الملكية الناجحة والفاعلة فى أهميتها وصداها التنويرى والحضارى المفرح.