رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللغة والحقيقة.. تجميل أم تدجيل؟




«القول بأن الحرب قد تكون دفاعًا عن السلام يشبه القول بأن ممارسة الجنس قد تكون دفاعًا عن العذرية».. لعل هذه العبارة هى أشهر ما قاله جورج كارلين، الكاتب والناقد الأمريكى الذى كان يلقى بعض ما يكتبه ممثلًا على منصات المسرح.
وفى شريط مرئى قصير يؤكد جورج كارلين أن اللغة أداة لإخفاء الحقيقة، ويضرب مثالًا على ذلك بقوله: «عندنا يطلقون على الفقراء الفائض فى الموارد البشرية، لكى يخفوا حقيقة الفقر»، ويقول أيضًا: «كَفوا عن القول بأن المخابرات الأمريكية تقتل الناس، وصاروا يقولون إنها فقط تقوم بتحييدهم»! وأيضًا: «القتلة الإسرائيليون أصبحوا بتلك اللغة الفدائيين، وأمسى الفدائيون العرب إرهابيين»، ويقول: «خذ مثالًا آخر على التمويه على الحقيقة، يقولون لك فى الطائرات نحن نستعد للصعود.. بالله عليك ما معنى الاستعداد للصعود؟ أن نصعد قبل أن نصعد؟ أم ماذا؟».
وعلى أساس من تلك الملاحظات ينتهى جورج كارلين إلى أن اللغة «أداة لإخفاء الحقيقة»، ومع إعجابى بذكاء الملاحظات وطرافتها، إلا أنه لا يسعنى الموافقة على أن وظيفة اللغة إخفاء الحقيقة، ألم تنطق اللغة بالحقيقة حين قال أمل دنقل: «لا تصالح ولو منحوك الذهب»، وهناك تراث عريق من الحقيقة عبّرت عنه اللغة فى الأدبين الأمريكى والإنجليزى وغيرهما.
هذا لا ينفى أن اللغة قد تُستخدم سياسيًا لإخفاء الحقيقة، أو للتخفيف من وقعها، وقد ضرب جورج كارلين أمثلة ساطعة على ذلك بعباراته الذكية، وفى تاريخنا صفحات طويلة قامت فيها اللغة بتشويه وتدمير وإخفاء الحقيقة، مثلما حدث عند إشاعة الأوساط الرسمية أن ثورة عرابى مجرد «هوجة» فقط لتسقط عنها جلال الثورة، وهناك بلا شك المثال الآخر عندما سُميت الهزيمة فى ١٩٦٧ «نكسة»، لكن إخفاء الحقيقة أو تدميرها جزء من استخدامات اللغة وليس وظيفة اللغة الأساسية، وهى التواصل بين البشر وحفظ الذاكرة الإنسانية والتقدم نحو الوعى، وهذه وظيفة اللغة الرئيسية.
ينادى جورج كارلين أيضًا بما يسميه لغة بسيطة مباشرة صادقة، لهذا لا تعجبه أن عبارة ورق المراحيض قد أمست «مناديل حمام»، وأن كلمة العلاج أصبحت «الاستشفاء»، أما الأوساخ فتحولت إلى «نفايات»، ويقول: «إنهم حتى عندما يتكلمون عن الطقس يقولون يوم مشرق جزئيًا بدلًا من يوم غائم جزئيًا! وعما قريب سيقولون عن فتاة تم اغتصابها: فتاة خضعت لممارسة جنسية لم تكن راغبة فيها!».
ومجددًا لا أستطيع موافقة الكاتب الأمريكى الطريف على ما يقوله، لأنه فى واقع الأمر يعترض على إحدى أهم وظائف اللغة، وهى تجميل الواقع وتطويره ووضعه فى إطار أفضل، على سبيل المثال فإننا عندما يموت شخص نفضل القول إنه «رحل»، وهنا بكلمة «رحل» يصون الإنسان الأمل فى استمرار الصلة حتى مع الغائبين ومع المجهول والقدر.
وسيظل تجميل الواقع إحدى أهم وظائف اللغة، وفى اعتقادى أن الشعر كله عملية تجميل للحياة، وتجميل للحب وللإنسان، وقد لا يكون الشخص بطلًا، لكنك حين تقول له إنه فارس فإنك تبعث فيه تلك الفروسية، والحب ليس عملية روحية بحتة، بل عملية روحية مادية معًا، ومزيج من الوعى والبدن، لكنك ترتقى به وتجمله وتزينه بمئات القصائد واللوحات والروايات، وفى هذا الصدد تحضرنى أبيات لـ«بابلو نيرودا» حين قال لمحبوبته: «وضع الله أسماء كل شىء فى فم آدم.. وبقى اسمك على لسانه ينتظرنى كما ينتظر الشتاء ولادة الورد».
تجميل الحياة إحدى أهم وظائف اللغة، أما التدجيل خاصة فى المجال السياسى فأمر آخر، وفى كل الحالات تبقى ملاحظات جورج كارلين طريفة وذكية وتدعو للتأمل، ويكفى أنه كان شجاعًا ليقول فى أمريكا: «القتلة الإسرائيليون أصبحوا الفدائيين وأمسى الفدائيون العرب إرهابيين».