رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دروس معركة القنال!


منذ أن حفر أجدادنا قناة السويس، ودفعوا فيها «ضريبة الدم» الغالى، أرواح مائة وعشرين ألف شهيد، سقطوا، وهم يحفرونها، تحت سياط النخاسة والسخرة والجوع والمرض، حتى استقامت طريقًا لا غنى عنه، يربط بين أرجاء المعمورة، ويُيَسر التواصل البشرى والتبادل التجارى بين الشرق والغرب، منذ ذلك الحين احتلت «القناة» مركز الصدارة ليس بالنسبة لنا وحسب، وإنما بالنسبة للعالم أجمع، ومثَّلت، على امتداد فترة طويلة سابقة، مطمعًا لكل الدول الاستعمارية الكبرى، فمن يُسيطر عليها يتحكم فى العالم أجمع.
إنها إحدى هِبات الطبيعة، وتجليات «عبقرية المكان»، ونتاج الجهد البشرى «العقلى والعضلى»، واجتماع العلم بالخبرة الإنسانية والتجربة، التى أكدت مقولة «نابليون بونابرت» الشهيرة: «مصر أهم بلد فى العالم»، «Egypt Is The Most Important Country Of The World»، ومن أجل ذلك تكالبت على الهيمنة عليها القوى ذات النفوذ، وقاتلت مصر- بشراسة- حتى استردتها، المرة تلو الأخرى.
وحتى بعد أن دانت القناة للأيدى الوطنية، بعد تأميمها، وفشل العدوان الثلاثى «البريطانى الفرنسى الإسرائيلى»، عام ١٩٥٦، لم تنقطع المؤامرات ومحاولات إفشال الإدارة المصرية لها، وهو أمر لم يتحقق، وكم من مشروع دُرس، وبعضها لا يزال يُدرس، من هذا الطرف أو ذاك، عدوًا «أو حبيبًا»، لإنشاء طرق بحرية بديلة، أو ممرات تجارية منافسة، جُللت جميعها بالفشل الذريع، ولذلك وقف العالم، وهو يكتم أنفاسه، يرقب المعركة الجديدة، معركة جنوح مركب النقل العملاق «Ever Given»، ويتابعها عن كثب، فكل دقيقة تمضى دون حل المعضلة، ثمنها ملايين الدولارات، وكل تأخير لتعويم حاملة الحاويات الضخمة الجانحة، يربك أسواق الدنيا، ويهز استقرار الاقتصاد العالمى كله.
إن نجاح السواعد والعقول المصرية فى مواجهة هذه الأزمة الكبيرة الطارئة، أمر مشكور ومحمود، وسيُضاف إنجازه إلى رصيد الخبرة المصرية الثمينة، المتراكمة عبر القرون والعقود فى إدارة هذا المرفق العام بالغ الأهمية، ولا معنى هنا للمكايدة والسخرية إلا افتقاد البوصلة الوطنية الصحيحة، فجميع الكوادر المعنية بهذه القضية «مسئولين وإداريين وخبراء وعاملين»، كانوا على مستوى المسئولية، وعلى درجة عالية من الكفاءة والمهارة، استطاعت أن تُخرج الهيئة والوطن كله من هذه الضائقة الصعبة، وأن توقف مسلسل الخسائر الكبير، ليس لمصر وحدها، وإنما لكل الشركات والسفن العالقة، ولحركة التجارة العالمية كلها، قبل أن تتداعى إلى منحدر أخطر.
ولعل فى نجاح الخبرة المصرية، فى حل هذه المعضلة، التى كان استمرارها كفيلًا بإحدث تداعيات اقتصادية وسياسية أضخم، محليًا وخارجيًا، ما يفيد فائدة كبرى، فى تجنُّب تكرار مثل هذه الحوادث الخطيرة، أو التقليل منها إلى الحد الأقصى، بتملُّك «هيئة قناة السويس» الوسائل والمعدات التقنية المتقدمة المهيأة لمواجهة مثل هذه الأوضاع المحتملة، ما دامت قد سمحت بمرور مثل هذه الناقلات العملاقة، وحتى لا يضيع الوقت الثمين بكل تكاليفه الباهظة، فى انتظار يد المساعدة المدفوعة الثمن ممن يملكها، وفى إعداد الخبراء والعاملين القادرين على التعامل مع هذه الوسائل والمعدات بأعلى درجات الاحترافية والمهارة.
لقد قيل قديمًا: «إذا أردت السلام، فتهيأ للحرب»، بمعنى أنك لكى تتجنب الحروب ومخاطرها، فلا بد أن يعلم القاصى والدانى أنك قادر على دخولها وكسبها، فيتجنبون مواجهتك، ويعملون لقوتك ألف حساب، وإذا دخلوها فسيمكنك كسبها بأقل التكاليف، والاستمرار فى الصراع الناجح حتى يحل السلام.
وكما يصح هذا الأمر فى مواجهة الميول والتطلعات والدوافع البشرية، يصح أيضًا فى مواجهة غوائل الطبيعة وتقلباتها ومخاطرها، فامتلاك القدرة على التصرُّف الفعال والسريع، إذا ما احتاج الأمر، فى مثل الظروف المناخية الصعبة التى دفعت حاملة الحاويات الضخمة للجنوح، يمنحك القدرة العملية والإمكانات والجاهزية، للتصرف بثقة وكفاءة، وسرعة واقتدار، وبأقل قدر محتمل من التكاليف والأعباء.
وأظن أن هذا الدرس يمكن، بل يحسن تعميمه، على كل مرافق الدولة، ومنها مرفق السكك الحديدية، الذى يصدمنا بين الحين والآخر، بكارثة كبرى يروح ضحيتها المئات من الضحايا والمصابين الأبرياء، ويترك ندوبًا لا تلتئم بسهولة فى الجسد المصرى الكبير الحى.