رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وسلامًا يا بلادى




نعم.. ستمضى الإرادة المصرية إلى حيث يقرر المصريون، نعم ستنتصر مصر فى كل معركة تخوضها، وستقهر كل تحدٍّ يعترض طريقها.. ليس كلامًا مرسلًا، أُطلقه فى لحظة نشوة تنتابنى بالنجاح المصرى فى تعويم السفينة البنمية الجانحة عند مدخل قناة السويس الجنوبى، بعد تعطيلها الملاحة فى هذا الشريان المائى الحيوى، لستة أيام، جعلت العالم يحبس أنفاسه، من تلك المُصيبة التى حلت على دوله.
وقد تعطلت سبل التجارة بين الشرق والغرب، وانقطع شمال العالم عن جنوبه، ولم يبق أمام دوله إلا الصبر على الكارثة التى أوقعتهم فيها هذه السفينة الجانحة، أو سلوك طريق المجهول البعيد، رأس الرجاء الصالح أو غيره.. ولأن الأمان على أرض مصر، والخدمات اللوجستية جاهزة على الدوام، وهى الطريق الأقصر، فقد اصطبرت أكثر من ٣٦٩ سفينة، تتبع خطوط ملاحية عالمية، على الانتظار فى مياهنا الإقليمية، حتى تنتهى الأزمة، وينجح المصريون فى تحريك هذه السفينة من حيث «شطحت».. وكانت ثقة العالم فى المصريين فى محلها، وإن هى إلا أيام ستة، وانتهت المشكلة الضخمة، بقدر ضخامة EVER GIVEN التى تحمل على متنها ٢٢٤ ألف طن من البضائع، من كل صنف ولون، شغلت مساحتها الكلية البالغة أربعمائة متر طولًا و٥٩ مترًا عرضًا، ناهيك عن تعدد مستويات التخزين فيها.. يعنى جبلًا، بالمعنى الحقيقى للكلمة، قد انغرس فى ضفتى مجرانا المائى العالمى.. فكانت له عناية الله، تكلل جهود أبنائنا العاملين فى هيئة قناة السويس، حتى عامت يوم الإثنين الماضى، وعادت الملاحة فى القناة إلى سابق عهدها.
لن أتحدث فى تفاصيل المشكلة، من أين بدأت وكيف انتهت؟.. ما يعنينى هنا، هو دلالات ذلك الموقف العصيب الذى تعرض له العالم، ومصر من بين دوله، على مدى ستة أيام.. فهذا الوقت كان فرصة لقراءة الكثير من تداعيات الأزمة.. وأولى القراءات هى تلك الأهمية غير المحدودة لقناة السويس بالنسبة للعالم الذى وقف على قدم وساق منذ أن جنحت السفينة، حتى تم تعويمها.. وأدرك من لم يكن يدرك أن هذا البلد- مصر- الذى يكيد له البعض ليل نهار، هو صاحب هذا الشريان الحيوى الذى إذا تعطل يومًا، فإن العالم يخسر كثيرًا، وليس عند حدود أربعمائة مليون دولار فى الساعة الواحدة، كما يقول الخبراء، فيما تبلغ حركة الشحن البحرى المتجهة غربًا نحو ٥.١ مليار دولار فى اليوم الواحد، وحركة الشحن البحرى المتجهة شرقًا نحو ٤.٥ مليار دولار تقريبًا.. لأن الخسائر المتوقعة تُحتسب من خلال ما تحقق من خسارة وما فُقِد من ربح ١٢٪ من حركة التجارة البحرية الدولية التى تمر عبر قناة السويس، ناهيك عن ١٤ مليون دولار، تخسرها مصر فى كل يوم، تتعطل فيه حركة الملاحة بالقناة.
ثانيًا، وكما أثبتها الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى تغريدته على تويتر، «نجح المصريون فى إنهاء أزمة السفينة الجانحة فى قناة السويس، رغم التعقيد الفنى الهائل الذى أحاط بهذه العملية من كل جانب، وبإعادة الأمور إلى مسارها الطبيعى، بأيدٍ مصرية، يطمئن العالم أجمع على مسار بضائعه واحتياجاته التى يمررها هذا الشريان الملاحى المحورى.. أتوجه بالشكر لكل مصرى مخلص أسهم فنيًا وعمليًا فى إنهاء هذه الأزمة.. لقد أثبت المصريون أنهم على قدر المسئولية دومًا، وأن القناة التى حفروها بأجساد أجدادهم ودافعوا عن حق مصر فيها بأرواح آبائهم.. ستظل شاهدًا على أن الإرادة المصرية ستمضى إلى حيث يقرر المصريون، وسلامًا يا بلادى».. وبعد هذا لا تعليق إلا بأن ما حدث هو رسالة من مصر للعالم بأننا وطن، رغم كل المشكلات التى تعترض طريقه، فإنه يمضى للأمام، وأننا قادرون على المسئولية.
ثالثًا، وكما يقول المثل الشعبى الدارج، «إللى فى القلب فى القلب».. فقد انتشر الذباب الإلكترونى التركى والقطرى، معلقًا بالسلب على ما حدث من جنوح للسفينة، متهكمًا من سبل مواجهته، وكأن مبدأهم فى الشماتة جزء من تركيبتهم التى لن تنفصم عنهم أبدًا، مهما قالوا عن مصالحة ونسيان ما كان.. الأهم أن عليهم أن يتغيروا من داخل أنفسهم، بحيث لا يقولون ما لا يفعلون.. ولا أجد ردًا عليهم وأمثالهم، أحلى مما كتب الرائع حافظ إبراهيم فى قصيدته «مصر تتحدث عن نفسها».. يقول الشاعر الرائع:
وَقَفَ الخَلقُ يَنظُرونَ جَميعًا كَيفَ أَبنى قَواعِدَ المَجدِ وَحدى
وَبُناةُ الأَهرامِ فى سالِفِ الدَهرِ كَفَونى الكَلامَ عِندَ التَحَدّى
أَنا تاجُ العَلاءِ فى مَفرِقِ الشَرقِ وَدُرّاتُهُ فَرائِدُ عِقدى
أَيُّ شَيءٍ فى الغَربِ قَد بَهَرَ الناسَ جَمالًا وَلَم يَكُن مِنهُ عِندى
فَتُرابى تِبرٌ وَنَهرى فُراتٌ وَسَمائى مَصقولَةٌ كَالفِرِندِ
أَينَما سِرتَ جَدوَلٌ عِندَ كَرمٍ عِندَ زَهرٍ مُدَنَّرٍ عِندَ رَندِ
وَرِجالى لَو أَنصَفوهُم لَسادوا مِن كُهولٍ مِلءِ العُيونِ وَمُردِ
لَو أَصابوا لَهُم مَجالًا لَأبدَوا مُعجِزاتِ الذَكاءِ فى كُلِّ قَصدِ
إِنَّهُم كَالظُّبا أَلَحَّ عَلَيها صَدَأُ الدَهرِ مِن ثَواءٍ وَغِمدِ
فَإِذا صَيقَلُ القَضاءِ جَلاها كُنَّ كَالمَوتِ ما لَهُ مِن مَرَدِّ
أَنا إِن قَدَّرَ الإِلَهُ مَماتى لا تَرى الشَرقَ يَرفَعُ الرَأسَ بَعدى
ما رَمانى رامٍ وَراحَ سَليمًا مِن قَديمٍ عِنايَةُ اللَهُ جُندى
كَم بَغَت دَولَةٌ عَلَىَّ وَجارَت ثُمَّ زالَت وَتِلكَ عُقبى التَعَدّى
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.